قصة شاب راح ضحية مجتمع ؟
ظلام دامس,أسوار مندَاة ,برد قارس ,ووحدة قاتلة ....
"ما الذي فعلته بنفسي ؟؟كيف يا ترى رميت بنفسي في هذه الحفرة المقفرة التي لا مخرج لي منها ؟؟"هذه الهمسات هي كل ما استطعت سماعه آتيا من تلك الزاوية المنحصرة بين اربعة جدران ...هو الصوت الذي يعاني صاحبه آلام الندم ,أو آلام دفع ثمن غلطة لم يرتكبها, إنه عذاب جحيمي,فأين المخرج ؟؟
عامر شاب في العشرين من عمره ,تعرفت عليه وانا اقوم باحدى جولاتي في السجن لمساعدة المرضى النفسيين ,لقد كانت حالته على غرار كل الحالات مأساوية وتصيب بالذعر ,فهو في مقتبل العمر لكنه عانا كثيرا .....و أنا أنوي الاقتراب من زنزانته ,بدأت اسمع همساته يلوم نفسه ,لكني دهشت من عدم قدرتي رؤيته من خلال القضبان! قلم يلفت انتباهي اليه شيء غير صوته الخافت الذي بالكاد سمعته ,وصورة رجليه البيضوتان اللتان لم تتحركا مذ وصلت اليه ,لانهما كانتا الوحيدتين الظاهرتين لي من جسده المغطى باسمال سوداء سواد الظلمة في المكان .
- عامر !! حاولت مناداته ,لكنه لم يسجب ,استجمعت قواي اذن وحاولت الاقتراب منه ,فاذا بقدميه تتراجعان خطوة للوراء دافعتان به ليلتصق بالحائط المبتل .
- لا يا عامر ,لا تخف فانا لن اؤذيك !عد الى مكانك وساتراجع انا شرط ان لا تبتل...عدت بخطوات هادئة الى الوراء لأجعله يتقدم نحوي و يبتعد عن الحائط المندى ....بعد ابتعاده حاولت مكالمته ,أو على الاقل أن أجعله يستجيب أو يرد على اقوالي ,لكنه لم يحرك ساكنا وكأنه يعيش في عالم غير عالمي.
كانت جلستنا الأولى فاشلة ,لكن حالته أثارت اهتمامي ,فطلبت أن أفحص ملفه بشكل أفضل علني استفيد منه لمعالجته . أدركت بعد اطلاعي على ملفه كاملا ان له أختا و أما كانتا تعيشان معه,ولم تزوراه منذ يوم محاكمته ...حاولت الإتصال بهما أو ربما جذبهما لزيارته ,لكنهما أنكرتا معرفته ببساطة ...بعد ساعات من المحاولة اقنعت واحدة منهن على الأقل بالقدوم معي .
- مرحبا عامر ,ها قد عدت اليك من جديد ...قلت له صباح اليوم التالي ...الا تريد ان تعرف من احضرت معي؟؟انها مفاجاة !!
حاول عامر ان يتجاهلني قدر المستطاع ,لكن فضوله كان اقوى من ان يمنعه من المظر ,حتى وان كان باختلاس .
- "ليتك تستطعين النطق" ...كان كل ما قاله عامر عند رؤيته لضيفتي
صحيح أني لم أقنع أمه وأخته بالقدوم معي لكني أحضرت معي على الأقل أحدا كان في مكانة أعز صديق له ...لقد كانت كلبته ليسا .
- حسنا عامر ساتركك مع ليسا ...أنا أعلم انك اشتقت لها كفاية لترغب في لحظات معها .
- لا لا لا !!إنها عديمة الفائدة لا أريدها هنا ...لماذا لا تنطق لماذا لا تجعلونها تتكلم ؟؟لماذا ؟؟لماذا؟؟,ها قد نطق اخيرا
بعد دراستي لملفه ,علمت ان امه و أخته شهدتا ضده يوم المحاكمة ,كما علمت أيضا أنهما وجهتا إليه تهما أخرى !! حالة عامر لم تكن تبشر بالخير ,بل وكانت توحي بوقوع مسرحية ادى فيها دور الابطال "الأم والأخت" لأن ملامح عامر كانت أبرأ من أن أجزم ارتكابه لأصغر جرم اتهم به ..فما قصتك يا عامر ؟؟
حاولت بعد ذلك الاتصال بمحاميه لأنير بعضا من خيوط القضية ,حددت معه موعدا كما كان يفترض بي أن أفعل ,لكنه أساسا لم يفدني بالشيء الكثير ,فكل ما قاله هو أن عامر التزم الصمت اثناء جلسة المحاكمة ,كما أنه صرَح بصدق شهادتي والدته و أخته ...وهو يتمتم بعد الاعتراف بانه لم يستطع انكار التهم على حساب حياتهما !!
رغم أني لم أفهم العبارة كاملة إلى تابعت علاج عامر وقضيته في نقس الوقت .....بعد مرور 43 يوما على العلاج بدأت علامات الاستجابة تظهر على ردود افعال عامر ,فقد بدأ يفك بعضا من كلامه المرمز ويتكلَم معي بطريقة مباشرة ,لأنه بدأ يزرع في الثقة ,لكني احسست خوفه من الإدلاء لي بما يعرف خشية أن أفعل به شيئا سبق أن فعله به شخص وثق به .
عملت على تمديد و تقوية رابط الثقة بيننا لكني لم أجعله يثق بي كصديقة أوكشخص مقرب ,بل حافظت معه على الرَسميات لأجعله يدرك أني لا أتحايل عليه ,فقد أريته حقيقة كوني معالجته فحسب ...وأنه لا مصلحة لي في إيذائه ...كما أخبرته بأني مهتمة بقضيته ,وبأني كلَمت كلَ الأشخاص المعنيين بها .
بفضل معاملتي هذه له ,تعززت ثقة عامر في لدرجة انه قرَر أن لا يسمعنا أحد ....حاولت جاهدة أن أوفر له الشرط ,وقد فعلت ...قبدأ يحكي و في صوته نبرة خوف و ارتجاف ,لكن خوفه لم يكن على نفسه من عاقبة اعترافه بل على عائلته . فقال حاكيا
"كنت أعيش في عائلة مكتملة الأفراد ,كان أبي لا يزال على قيد الحياة ,لقد كان طيب القلب وحنونا,أو على الاقل هذا ما كانت تخبرني به أمي , فالفرصة لم تكن تسمح لي بلقائه كثيرا ...رغم أني كنت أسهر دائما منتظرا إيَاه ,لكني كنت صغير السن والنعاس يداهمني قبل عودته كلَ ليلة
أما عن عمله فأنا لم أكن أعلمه ,بل وكنت كثي التساؤل عنه ,لكن لم يكن يجيبني أحد لأنهم كذلك كانوا جاهلين له ....وفي احدى الليالي قرَرت أن أنتظره حتَى الصَباح ,وعزيمتي كانت جد قويَة بحيث أني جعلت نفسي أبتلع كوبين قهوة كاملين رغم صغر سنَي ....انتظرت مطولا حتى بلغت الساعة الثانية صباحا , لأسمع دقا على الباب ...أسرعت و الفرحة تطير من عيني لألاقيه ...فاذا بي القى رجالا كثيرين عند الباب ,يرتدون نقس الزي والقبعات , و الأضواء تنبعث من سياراتهم ....لم أعلم من كانو لكني أدركت أن شيئا سيئا وقع ,سيئا للغاية.... لم يرغب الرجل في مكالمتي قبل أن يرى امي , وعندما كلمها بدأت من فورها بالبكاء فاخذت ارفس الرجل واشتمه واضربه بكل ما أوتيت من قوة ضنا مني أنه سبب بكاء أمي ,لقد كنت مخطيء فقد كان أبي خو من سبب لها الاذى بغيابه او بالاحرى بذهابه لمكان لن يعود منه ...وبعد مرور السنوات ادركت انه توفي في حادث سيارة وهو ثمل وتحت تاثير مخدر ...كنت قد بدأت أكبر وكذلك أمي ,فقد بدأت تظهر عليها علامات التقدم في السن والتعب من عبء المسؤولية على كاهلها ,وكان حس المسؤولية يزداد في فقررت يوما أن اوقف معاناتها واخرج للبحث عن عمل فقد كنت قد نلت كفايتي من العلم ....وأنا في رحلتي للبحث عن عمل صادفت رجلا قال انه سيساعدني ,فتساءلت عن ما منت ساعمل ,فقال اني ساوزع بعض المواد الغذائية مقابل أجر ,لكني فوجئت لارتفاه ثمن الاجر بالنسبة لعامل توزيع ,طرت من الفرحة وبدأت العمل من فوري ...لاعود مساءا للبيت لاطمئن أمي واعدها بان اتعابها ستثمر اخيرا ....... لقد اوقفت دراستي فالعمل اخذ كل وقتي رغم اني لم اكن بعيدا عن التخرج ....مرت السنين وعملي يتطور ويتوسع واجري يرتفع ...الى ان جاء ذلك اليوم ,اليوم الذي عاد فيه اصحاب الرداء الموحد ,لكن آن ذاك كنت قد ادركت انهم شرطة ,ووجودهم حولي لا ينبا بالخير ,اعتقلت وشرع في تفتيشي وعندما قاومت احسست صعقة في راسي لم استيقظ بعدها الا وانا في هذا المكان المقفر متهم بالترويج للمخدرات ,لقد كان ما حملته من سلع مخدرات وممنوعات ,لكني لشدة امانتي لم تخولني نفسي ولو للحظة ان اتقحص نوع السلعة.
في اليوم الثاني ,وقبل قدوم محامي وردني اتصال فيه تهديد لي ولعائلتي بالصمت مقابل ارواحهن ...لم تكن الصفقة عادلة في حقي ,لكن المتصل قال انهما ستعيشان حياة مترفة وطيبة ,مما دعاني الى الصمت يوم المحاكمة و أنا أرئ أمي تشهد وتكذب ضدي باكية ؟يا الاهي لحظة مروعة !!
حتى أن الوغد امرهما باتهامي بتهم اخرى على اساس كوني لصا منذ الصغر ومشردا وخارجا عن القانون ,لكني لم استطع ان انفي ايا من اقوالهما خوفا مني عليهما و ها انا ذا ادفع ثمن الفساد في مجتمعي
- أنا آسفة لاجلك عامر ...اتفهم أن ما مررت به ليس بالهين لكني اعدك باخراجك من هذا المكان الذي ليس لامثالك ....قلت بعد ان اتم عامر حكايته
تابعت تحرياتي وتقمصت شخصية الشابة المشردة الباحثة عن عمل لاستدرج ايادي الاوغاد والتجار غير الشرعيين الي ,وقد حصل و طلب مني احدهم العمل معه............كنت اخذ معي مسجلتي اينما ذهبت مؤدية دور الطعم بالنسبة للشرطة حتى وصلنا لراس الشبكة شيئا فشيئا في حي عامر وحلت الشبكة بعدها واعتقل كل من له يد في الاعمال غير الشرعية بشهادة وادانة من رئيس العصابة فقد اجبر على الاعتراف ... وهكذا وبفضل شجاعة عامر ونطقه تمكن العديد من التخلص من قيود السجن الظالمة ....وتقلصت نسبة الفساد حتى وان كان بالشيء القليل وقد اعيد توكيل محام لعامر وقدم طعنا في قضيته لتتم متابعتها واعادة النظر فيها وقد انتصر عامر فيها وعاد ليكمل دراسته ويعمل عملا يدرك جذوره ادراكا تام كما ان العمل كان يتماشى ودراسته ...لقد صار محققا في قسم الشرطة ...وهو الان يسعى لكشف الوقائع على اكمل وجه ويحرص على ان لا يظلم احد في قضاياه .
اما انا فاتابع مشواري في تحليل حالات وثضايا مرضاي كعادتي .......انتظرو عودتي بقصة حالة اخرى من مجتمعنا
:b: