• بادئ الموضوع بادئ الموضوع Mr. HATEM
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
  • المشاهدات 1,346
(18) مَحَاسِنُ المَوْتِ


- قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ}. سورة آل عمران، الآية رقم: 185

- وقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ}. سورة لقمان، الآية رقم: 34

- وقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإذَا جَاءَ أجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}. سورة النحل، الآية رقم: 61

- وقال بعضُ السَّلَف: "ما مِن مؤمن إلاَّ والموت خير له مِن الحياة، لأنه إِنْ كان مُحسِناً فاللهُ تَعَالى يقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ}. سورة آل عمران، الآية رقم: 198؛ وإِنْ كان مُسِيئاً، فاللهُ عَزّ وجَلّ يقول أيضاً: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. سورة آل عمران، الآية رقم: 178

- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: «هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا». رواه البخاري

(مُرَبَّعًا): شَكْلاَ ذَا أَضْلاَعٍ أَربَعٍ مُتَسَاوِي الزَّوَايَا.

(خَارِجًا مِنْهُ): مُمْتَدًّا إِلَى خَارِجِهِ.

(الأَعْرَاضُ): الآفَاتُ الَّتِي تُعْرَضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ وشُغْلٍ وآخِرُهَا المَوْتُ. (أَخْطَأَهُ): لَم يُصِبْهُ.

(نَهَشَهُ): أَصَابَهُ.

- وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي». رواه البخاري ومسلم



-- قال الجاحظ:

- قال مَيْمُون بْنُ مِهْرَان: "أَتِيتُ عُمَرَ بْنَ عبد العزيز، فكَثُر بُكاؤُه، ومَسْأَلَتَه اللهَ المْوتَ". فقلتُ: "يا أمير المؤمنين، تسأل ربك الموت، وقد صنع اللهُ على يدك خيراً كثيراً، أَحيَيتَ سُنَناً، وأَمَتَّ بِدَعاً، وفعلتَ وصنعتَ، ولَبَقَاؤُك رحمةً للمؤمنين". فقال: "أَلاَ أكونُ كالنَّبِي الصَّالح حِين أَقَرَّ اللهُ عَيْنَه، وجَمَع له أَمْرَه؛ قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. سورة يوسف، الآية رقم: 101؛ فما دَارَ عليه أُسْبُوع حتَّى مَات، عليه السلامُ".

- وقال بَعضُ السَّلَف: "الصَّالِح إذا مات استراح، والطَّالِح إذا مات اسْتُريح منه".

- وقال بعضهم: "الموت أَشَدُّ مِمَّا قبله، وأَهْوَن مِمَّا بعده".

- ونَظَرَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ إلى مَيِّت يُدفَن، فقال: "إِنَّ شَيئاً أوَّله هذا لحَقِيق أن يُخَاف آخره، وإِنَّ شَيئاً هذا آخره لحَقِيقٌ أَنْ يُزْهَد في أوَّله".

************
 

توقيع : Mr. HATEM
(19) مَحَاسِنُ المَوَاعِظِ

- قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ}. سورة النحل: 125.

- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا". رواه البخاري ومسلم

(يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوْعِظَةِ): يَتَعَهَّدنَا مُرَاعِيًّا أَوْقَات نَشَاطِنَا ولاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ دَائِمًا.

(كَرَاهَةَ السَّآمَةِ): لاَ يُحِبُّ أَنْ يُصِيبَنَا المَلَلِ.


-- قال الجاحظ:

- قال الأَصْمَعِيُّ: "حَجَجتُ، فنزلتُ ضرية، فإذا أعرابي قد كَوَّر عمامته على رأسه، وقد تَنَكَّب قَوْساً؛ فصعد المِنْبَر، فحَمَد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنما الدنيا دار مَمَر، والآخرة دار مَقَرّ؛ فخُذُوا مِن مَمَرِّكم لمَقَرِّكم، ولا تَهتِكوا أَسْتَاركم عند مَن يعلم أسراركم ... أمَّا بعدُ، فإنه لن يستقبل أحدٌ يوماً من عُمره إلا بفراق آخر من أجله؛ فاستعجلوا لأنفسكم لما تُقدمون عليه، لا لما تطعنون عنه؛ وراقبوا مَن ترجعون إليه، فإنَّه لا قويّ أقوى مِن خالق ولا ضعيف أضعف مِن مخلوق، ولا مَهْرَب مِن الله إلا إليه؛ وكيف يهرب مَن يتقلَّب بيني يدي طالبه".

- وقال بعض الأعراب: "إنَّ الموت ليقتحم على بني آدم كاقتحام الشَّيب على الشَّباب؛ ومَن عرف الدنيا لم يفرح بها فهو خائف، ولم يحزن فيها على بَلوى؛ ولا طالب أَغْشَم مِن الموت، ومَن عطف عليه الليل والنهار أَردياه، ومَن وُكِّل به الموت أَفْنَاه".

- وقال أعرابي: "كيف يُفْرَح بمَمَرّ تَنْقُصه الساعات، وبسلامة بَدَن مُعَرَّض للآفات؟! لقد عجبتُ مِن المَرء يَفِرُّ مِن الموت، وهو سبيله، ولا أرى أحدًا إلاَّ استدركه الموتُ".

- وحَضَرت الوَفَاةُ رجلاً من حُكَماء فارس فقيل له: "كيف حالك؟!" قال: "كيف يكون حال مَن يُريد سَفَراً بعيداً بغير زَاد، ويَقْدُم على مَلِك عَادِل بغير حُجَّة، ويَسْكُن قَبراً مُوحِشاً بغير أَنِيس؟!"
********
 
توقيع : Mr. HATEM
(20) مَحَاسِن الكُتُب والكِتَابَة

-- قال الجاحظ: كانت العَجَم تُقَيّد مَآثِرها بالبُنْيان والمُدن والحُصُون، مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر، وبناء المدائن والسدير، والمدن والحصون، ثم ان العَرَب شاركت العَجَم في البُنْيان، وتفرّدت بالكُتِب والأَخبار، والشِّعر والآثار؛ فلها من البنيان غمدان، وكعبة نجران، وقصر مأرب، وقصر مارد، وقصر شعوب، والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتَصْنيف الكتب أَشد تَقِييداً للمَآثِر على ممر الأيّام والدُّهور من البنيان، لأن البناء لا محالة يَدْرُس، وتُعْفَى رُسُومه، والكتاب باقٍ يقع من قَرن إلى قَرن، ومن أُمّة إلى أُمّة، فهو أبداً جديد، والنّاظر فيه مُستفيد، وهو أبلغ في تحصيل المآثِر من البنيان والتَصَاوير.

وكانت العَجَم تجعل الكِتَاب في الصُّخور، ونَقْشاً في الحجارة، وخِلْقَة مُرَكّبَة في البنيان، فربما كان الكِتَاب هو النّاتئ، وربما كان هو المَحْفُور، إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جَسِيم، أو عَهْداً لأمر عَظِيم، أو عَظِيم، أو مَوْعِظة يُرْتَجى نَفْعها، أو أحياء شرف يريدون تخليد ذِكره، كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان، وعلى باب سمرقند، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المقشعر، وعلى الأبلق الفرد، وعلى باب الرها؛ يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة، فيضعون الخطّ في أبعد المواضع من الدُّثور، وأَمْنعها من الدُّرُوس؛ وأَجْدَر أن يَراه مَن مَرّ به، ولا يُنْسَى.

ولولا الحِكَم المَحفوظة والكُتُب المُدَوّنة، لَبَطَل أكثر العِلْم، ولَغَلَب سُلّطان النِّسْيان سُلّطَان الذِّكر، ولما كان للناس مَفْزَع إلى مَوْضِع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحُرِمنا أكثر النّفع، ولولا ما رَسَمَت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سِيَرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مُستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن نُدركه إلا بهم، لقد بخس حظنا منه، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفِكْر والعِبَر، والعُلَماء بمخارج المِلَل وأَرباب النِّحَل، وورثة الأَنْبياء وأعوان الخُلَفاء، يكتبون كتب الظُّرفَاء والصُّلَحاء، وكُتُب أَعوان الصُّلحاء وكتب أَصْحاب المِرَاء والخُصُومات، وكتب السُّخَفاء وحميّة الجاهلية، ومنهم مَن يُفرِط في العِلم أيام خمُوله وترك ذِكره وحَدَاثة سِنّه، ولولا جِيَاد الكتب وحِسَانها لما تحرّكت هِمَم هؤلاء لِطَلَب العِلْم، ونَازعت إلى حُبّ الكتب، وأُلّفت من حال الجهل وإن يكونوا في غِمار الوحش، ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير.

- وسمعتُ محمد بن الجَهْم يقول: "إذا غَشِيَني النُّعَاس في غير وقت النّوم تناولتُ كتاباً فأجد اهتزازي للفوائد الأَرْيَحِيّة التي تَعْتَرِيني من سُرور الإِسْتِنْبَاه وعِزّ التّبين، أشد إيقاظاً مِن نَهِيق الحِمَار، وهَدّة الهَدْم، فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته، لم أُوثر عليه عِوَضاً، ولم أبغِ به بَدَلاً، فلا أزال أَنْظُر فيه ساعة بعد ساعة، كم بقي مِن ورقة مخافة استنفاده، وانقطاع المادة مِن قِبَلِه".

- وقال ابنُ دَاحَة: "كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس .. فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسُئِل عن ذلك فقال: "لم أرَ أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب، ولا أسلم من الوحدة".

- وأَهْدَى بعضُ الكُتّاب إلى صَديق له دَفتراً وكَتب معه: "هديتي هذه، أعزّك اللهُ، تَزْكُو على الإنفاق، وتربو على الكَدّ، لا تفسدها العَوَاري، ولا تَخْلِقَها كَثْرة التّقليب، وهي إِنْس في الليل والنهار والسّفر والحَضَر تُؤْنِس في الخَلْوَة وتمنع من الوَحْدة، مُسامِر مُساعِد، ومُحدّث مِطوَاع، ونَديم صِدْقٍ".

- وقال بعض الحكماء: "الكُتُب بَسَاتين العُلَماء".

- وقال آخر: "ذَهَبتْ المكارم إلا مِن الكُتُب".

-- قال الجاحظ: وأنا أحفظُ وأقول: الكتاب نِعَم الذُّخْر والعُقْدة، والَجِليس والعُمْدة، ونِعَم النشرة ونِعَم النُّزْهَة، ونِعَم المُشْتَغل والحِرْفَة، ونِعَم الأَنِيْس ساعة الوَحْدة، ونِعَم المَعرِفة ببلاد الغُرْبَة، ونِعَم القَرِين والدَّخِيل والزَّمِيل، ونِعَم الوَزِير والنَّزِيل.

والكتاب وِعاء مُلِيء عِلْماً، وظَرْف حُشِي ظُرْفاً، وإِنَاء شُحِن مُزَاحاً، إِنْ شئتَ كان أَعيَا من باقل، وإِنْ شئتَ كان أبلغ من سحبان وائل، وإِنْ شئتَ سَرّتك نَوَادره، وشَجّتك مَوَاعِظه، ومَن لك بِوَاعظ مثله، وبِنَاسك فَاتِك، ونَاِطق أَخْرَس؛ ومَن لك بِطَبيب أَعرابي، ورُومي هِنْدي، وفارسي يُوناني، ونَدِيم مَوْلِد، ونَجِيب مُمَتِع؛ ومَن لك بشيء يجمع الأَوّل والآخِر، والنَّاقِص والوَافِرّ، والشّاهِد والغَائِب، والرّفيع والوَضِيع، والغص والسّمِين، والشّكل وخِلافه.

وبَعدُ .. فما رأيتُ بُسْتاناً يحمل في رُدْنٍ، ورَوْضَة تُنْقَل في حَجَر، يَنْطِق عن المَوْتَى ويُتَرجم عن الأَحياء، ومَن لك بمُؤنِس لا ينام إلا بنومك ولا يَنْطِق إلا بما تَهوَى، آمن من الأرض، وأَكْتَم لِلسّرّ من صاحب السّرّ، وأحفظ للوديعة من أَربَاب الوَديعة.

ولا أَعْلَمُ جَاراً آمَن، ولا خَلِيطاً أَنْصَف، ولا رَفِيقاً أَطْوَع، ولا مُعلِّماً أَخْضَع، ولا صَاحِباً أَظْهر كِفَاية وعِنَاية، ولا أقل اِمْلالاً ولا إِبْرامًا، ولا أَبْعَد مِن مِرَاء، ولا أَتْرك لِشَغَب، ولا أَزْهَد في جِدَال، ولا أَكَفّ في قتال من كِتَاب، ولا أَعَمّ بَيَانًا، ولا أَحْسن مُؤَاتاة، ولا اَعْجَل مُكَافأة، ولا شَجَرة أَطْوَل عُمْراً، ولا أَطْيَب ثَمَراً، ولا أَقْرَب مُجْتَنَى، ولا أَسْرَع إِدْرَاكاً، ولا أَوْجَد في كُلِّ أَبَّان من كِتَاب.

ولا أَعْلَمُ نِتَاجاً في حَدَاثة سِنِّه، وقُرْب مِيَلاده، ورُخْص ثَمَنه وإِمكان وُجُوده، يجمع من السِّيَر العَجِيبة، والعُلُوم الغَرِيبة، وآثَار العُقول الصَّحِيحة ومَحمود الأَذْهَان اللّطِيفة، ومِن الحِكَم الرَّفِيعَة، والمَذَاهِب القَدِيمة، والتَّجارب الحَكِيمة والأَخْبار عن القُرُون الماضية، والبِلاد النَّازِحَة، والأَمْثَال السَّائِرة والأُمَم البَائِدَة ما يجمعه كِتَاب.

ومَن لك بِزَائِر إِنْ شِئْتَ كانت زيارته غِبًّا ووِرْدِه خَمْساً، وإن شِئْتَ لزمك لُزُوم ظِلّك، وكان مِنّك كَبَعضك.

والكِتَاب هو الجَلِيس الّذي لا يُطْرِيك، والصّدِيق الّذي لا يُقْلِيك، والرّفِيق الّذي لا يَملّك، والمُستَمِع الّذي لا يَستَزِيدك، والجَارّ الّذي لا يَسْتَبْطِئك، والصّاحب الّذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يُعَامِلك بِالمَكْر، ولا يَخْدعَك بِالنِّفَاق.

والكِتَاب هو الّذي إن نظرتَ فيه أَطَال إِمْتَاعك، وشَحَذ طِبَاعك، وبَسَط لِسَانك، وجَوّد بَيَانك، وفَخَّم أَلْفَاظَك وبَجَح نَفْسَك، وعَمَر صَدْرَك، ومَنَحَك تَعْظَيم العَوَام وصَدَاقة المُلُوك، يُطِيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السّفَر طاعته في الحَضَر، وهو المُعَلِّم إِنْ اِفْتَقَرت إِلَيه لا يَحْقِرك، وإِنْ قَطَعت عنه المَادّة لم يَقْطَع عنك الفَائِدة، وإِنْ عُزِلت لم يدع طاعتك، وإن هَبّت رِيْح أَعْدَائك لم يَنْقَلِب عَلَيْك، ومتى كُنْتَ مُتَعَلّقاً مِنْه بِأَدنى حَبْل لم تَضّطرك معه وَحْشَة الوَحْدَة إلى جَلِيس السَّوْء، وإِنّ أَمْثَل ما يُقْطَع به الفَرَاغ نهارهم وأصحاب الكِفَايات سَاعَات لَيْلِهم، نَظَر في كِتَاب لا يَزَال لهم فيه ازياد في تجربة، وعقل ومُرُوءَة وصَوْن عِرْض وإِصْلاح دَيْن، وتَثْمِير مَال، وابتداء إنعام.

ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إِلاّ مَنْعه لك من الجلوس على بَابِك، والنَّظَر إلى المَارّة بك مع ما في ذلك من التّعرُّض للحقوق التي تَلْزم، ومِن فُضُول النَّظَر وملابسة صِغَار الناس، ومِن حُضور ألفاظهم السّاقِطة، ومَعَانِيهم الفَاسِدة، وأَخْلاَقهم الرّدِيّة، وجَهَالَتِهم المَذْمُومَة، لكان في ذلك السّلامة والغَنِيمَة، واِحرَاز الأَصْل مع اِستفادة الفَرع؛ ولو لم يكن في ذلك إِلَّا أَنّه يَشْغَلك عن سُخْف المُنَى، واعتياد الرّاحة، وعن اللّعب، وكل ما تَشْتَهِيه، لقد كان له في ذلك على صَاحِبه اَسْبَغ النِّعَم، وأَعْظَم المِنَّة.

وجُمْلة الكِتَاب وإِنْ كَثُر وَرَقَه، فليس مِمَّا يُمَلّ لأنه وإن كان كتاباً واحداً، فإنه كُتُب كثيرة في خِطَابه، والعِلْم بالشّريعة والأحكام، والمعرفة بالسياسة والتّدبِير".

- وقال مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْرِ: "إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أَفْواه الرِّجَال، فإنك لا ترى ولا تسمع إلا مختاراً ولؤلؤاً منظوماً".

- وقال لُقْمَانٌ لِابْنِهِ: "يا بُنّي نَافِس في طَلَب العِلم، فإنه مِيراث غير مَسْلوب، وقرين غير مَرغوب، ونَفِيس حَظّ مِن الناس وفي الناس مَطْلوب".
- وقال الزُّهْرِيُّ: "الأَدَب ذَكَر لا يُحبه إلا الذُّكُور مِن الرِّجَال ... ولا يَبْغضه إِلاَّ مُؤَنّثهم".
- وقال أيضاً: "إذا سمعتَ أَدَباً فاكتبه ولو في حائط".

- وقال مَنْصُور بنُ المَهْدِي لِلمَأْمُون: "أَيُحسِن بنا طَلَب العِلم والأَدَب؟! قال: "واللهِ لأن أموتُ طالباً للأَدَب خير لي أن أعيش قانعاً بالجهل"!! قال: «فَإِلى مَتى يُحسِن بي ذلك؟" قال: "مَا حسنت الحياة بك".

*********
 
توقيع : Mr. HATEM
وبَعد أن نَهَلنَا من هذا الخِضَمّ وَجَب علينا التّعريف بِكَاتِبِه:

الـــجَـــــاحِـــــــظ

هُـــــوَ: عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ بْنِ مَحْبُوْبٍ البَصْرِيُّ، أَبُو عُثْمَانَ الجَاحِظُ. العَلاَّمَةُ المُتَبَحِّرُ، كَبِيرُ أَئِمَّةِ الأَدَبِ العَرَبِيِّ

مَـوْلِــدُهُ: وُلِدَ بِالبَصْرَةِ سَنَةَ ثَلاَثٍ وسِتِّينَ ومِائَةٍ (163 هــ).

وسُمَّيَ بِــ"الجَاحِظُ": لِجُحُوظِ عَيْنَيْهِ؛ وكَانَ شَنِيعَ المَنْظَرِ.

أَخَذَ الجَاحِظُ النَّحوَ والعَرَبِيَّةَ مِن: أَبِي عُبَيْدَةَ التَّيْمِيِّ، والأَصْمَعِيِّ، وأَبِي زَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ، والأَخْفَشِ الأَوْسَطِ؛، وغَيْرِهِم.

- وكَانَ وَاسِعَ الإِطِّلاَعِ جِدّاً، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِيَدِهِ كِتَابٌ قَطُّ إِلاَّ اسْتَوفَى قِرَاءتَه، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَسْتَأَجِر دَكَاكِيْنَ الكُتْبِيِّيْنَ، ويَبِيتُ فِيْهَا لِلمُطَالَعَةِ!!

- وكَانَ أَحَدَ الأَذْكِيَاءِ، دَاهِيَةً فِي قُوَّةِ الحِفْظِ، مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وتَصَانِيْفُه كَثِيْرَةٌ جِدّاً؛ حَيْثُ لاَ يُعلَمُ أَحَدٌ مِن أَهْلِ العِلْمِ أَكَثَر كُتُباً مِنْهُ؛ وكَانَت فِيهِ دُعَابَةٌ.

أَشْــهَـــرُ تَـصَــانِـيـفِـــهِ: كِتَابُ (البَيَانِ والتَّبْيِينِ)، وَ (الحَيَوَانِ)، وَ (البُخَلاَءِ)؛، وغَيْرِهِم الكَثِيْر.

قَــالُـــواْ عَـنْـــهُ:

- قَالَ المُبَرِّدُ: مَا رَأَيْتُ أَحرَصَ عَلَى العِلْمِ مِن ثَلاَثَةٍ: الجَاحِظ، والفَتْح بْن خَاقَان، وإِسْمَاعِيل القَاضِي.

- وقَالَ أَبُو هَفَّانَ المِهْزَمِيُّ: ثَلاَثَةٌ لَم أَرَ قَطُّ ولاَ سَمِعتُ أَحَبّ إِلَيْهِم مِن الكُتُبِ والعُلُومِ: الجَاحِظُ، والفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ، وإِسْمَاعِيْلُ القَاضِيُّ.

- وقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الأَزْهَرِيُّ: أُوتِيَ الجَاحِظُ بَسْطَةً فِي القَوْلِ وبَيَاناً عَذْباً فِي الخِطَابِ.

- وقَالَ يَاقُوتٌ الحَمَوِيُّ: كَانَ الجَاحِظُ مِنَ الذَّكَاءِ وسُرعَةِ الخَاطِرِ والحِفْظِ، بِحَيْثِ شَاعَ ذِكْرُهُ وعَلاَ قَدرُهُ.

- وقَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ وَاسِعَ النَّقْلِ، كَثِيرَ الإِطِّلاَعِ، مِن أَذْكِيَاءِ بَنِي آدَمَ وأَفْرَادِهِم.

- وقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، قَد أَتْقَنَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وصَنَّفَ كُتُبًا جَمَّةً تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ ذِهْنِهِ وجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ.

وَفَـــاتُـــــهُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وخَمْسِيْنَ ومِائَتَيْنِ (255 هــ)، ولَهُ مِن العُمُرِ اثْنَتَانِ وتِسْعُونَ سَنَةً (92).
*********
 
توقيع : Mr. HATEM
الــــمـــــــصــــــــــــادر

- "الأمثال"، لـــ/ القاسم بن سلاّم الهروي.

- "البيان والتبيين"، لـــ/ عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ.

- "الآمل والمأمول"، لـــ/ عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ.

- "الحيوان"، لـــ/ عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ.

- "المحاسن والأضداد"، لـــ/ عمرو بن بحر، الشهير بالجاحظ.

- "المحاسن والمساوئ"، لـــ/ إبراهيم بن محمد البيهقي.

- "المجتنى"، لـــ/ محمد بن الحسن بن دريد الأزدي.

- "حلية المحاضرة"، لـــ/ محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي.

- "جمهرة الأمثال"، الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري.

- "نثر الدر في المحاضرات"، لـــ/ منصور بن الحسين الرازي، أبو سعد الآبي.

- "خاص الخاص"، لــــ/ عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي.

- "التمثيل والمحاضرة"، لــــ/ عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي.

- "الإعجاز والإيجاز"، لــــ/ عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي.

- "المستقصى في أمثال العرب"، لـــ/ محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري.

- "زهر الآداب وثمر الألباب"، لـــ/ إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري.

- "محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء"، لـــ/ الحسين بن محمد؛ الراغب الأصفهاني.

- "مجمع الأمثال"، لـــ/ أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري.

- "لباب الآداب"، لـــ/ أسامة بن مرشد بن علي الشيزري.

- "الحماسة المغربية"، لـــ/ أحمد بن عبد السلام الجرّاوي.

- "العباب الزاخر"، لـــ/ الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي.

- "التذكرة الحمدونية"، لـــ/ محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون البغدادي.

- "لسان العرب"، لـــ/ محمد بن مكرم بن على، ابن منظور الإفريقي.

- "غرر الخصائص الواضحة"، لـــ/ محمد بن إبراهيم بن يحيى؛ الوطواط.

- "نهاية الأرب في فنون الأدب"، لـــ/ أحمد بن عبد الوهاب النويري.

- "القاموس المحيط"، لـــ/ محمد بن يعقوب الفيروزآبادي.

- "روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار"، لـــ/ محمد بن قاسم بن يعقوب الأماسي.

- "تاج العروس من جواهر القاموس"، لـــ/ محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، الملقّب بمرتضى الزَّبيدي.

****************
 
توقيع : Mr. HATEM
عودة
أعلى