كريم الجنابي
مدير عام للمنتدى والمكتبة الالكترونية
طاقم الإدارة
طـــاقم الإدارة
★★ نجم المنتدى ★★
نجم الشهر
عضو المكتبة الإلكترونية
عضوية موثوقة ✔️
كبار الشخصيات
غير متصل
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي

التوكل على الله

أهمية التوكل على الله

تتجلى أهمية التوكل على الله تعالى في شؤون الإنسان جميعها؛ لأن كل فعل أو حركة لا يخرج عن دائرة الإرادة الربانية
وتدبيره الشامل في هذا الكون ، والإنسان ضعيف لا حول له ولا قوة من غير أن يعتمد على الله ؛ لأنه هو الذي يعطي
القوة والدفع للإنسان ليتحرك في الأرض ويسعى فيها بما أمره الله به، انطلاقًا من حركة الحواس إلى أصغر عضو في
الجسم، كلها تسير وفق إرادة الله وسنته، فالعين لا تنام لولا عناية الله بها، والعقل لا يستطيع أن يفكر ويتأمل من غير
أمر خالقه، والأطراف لا تعمل ولا تسعى في طلب الرزق إذا لم يمنحها الله قوة الحركة والتنقل، والمريض
لا يُشفى من دون الله، وهكذا في جميع الأحوال.
فالتوكل على الله تعالى يمنح الإنسان الاستمرارية في العمل والعبادة بالوجه الذي يريده الله تعالى، أما إذا خالف الإنسان
هذه السنة، وأوكل شؤونه إلى نفسه، أو إلى غيره من البشر، من غير التوكل على الله، فإنه بذلك يجلب على نفسه الضرر
والأذى بسخط الله عليه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الصورة في قصة قارون بقوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ
فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ.
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ
إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِم الْمُجْرِمُونَ}(1).
هكذا اغتر قارون بما عنده من الأموال والأملاك، وظن أنه بعلمه وحده استطاع أن يجمع هذه الثروة الهائلة، من غير أن يوكل
الأمر إلى الله تعالى، واستند في هذا الموقف إلى نفسه الضعيفة التي لا تملك من الأمر شيئًا، وجحد فضل الله تعالى وكرمه عليه
بهذه الأموال، فوكَّله الله إلى ذلك، فخسف بتلك الثروات والأموال الأرض حتى لا يبق منها شيء، يقول تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا
بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ}(2).
فلا غنى عن التوكل على الله تعالى، وليحذر الذين يغفلون عن هذه الحقيقة من غضب الله تعالى وعقابه،
كما حدث لقارون ومُلكه وماله.
-------------------------
(1) القصص [76-78].
(2) القصص [81].

مكانة التوكل على الله
يعدُّ التوكل على الله تعالى من أهم مقتضيات العقيدة؛ لأن طلب العون والقوة والنفع من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى
شرك به جلّ وعلا، ومنأجل ذلك تعددت النصوص القرآنية والنبوية من أجل ترسيخ عقيدة التوكل على الله في نفوس
المسلمين. ويمكن بيان هذه المكانة والمنزلة للتوكل من خلال النقاط الآتية:
1- إن الله تعالى أمر بالتوكل عليه صراحة، ولا ينبغي لأحد أن يلجأ بعدها لغيره سبحانه وتعالى في الاستعانة وطلب القوة
وتحقيق الآمال، لقوله جل وعلا:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}(1).
2- إن المسلم يردد في كل ركعة من صلواته هذا المنهج ويتعهد الله تعالى عليه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(2).
3- إن التوكل على الله تعالى يجلب للمتوكل محبة الله تعالى ورحمته وإعانته، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(3).
4- جعل الله تعالى التوكل عليه من صفات المؤمنين وثمرة من ثمرات الإيمان به جل وعلا، لقوله: {وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ}(4). وقوله تعالى: {وَعَلَىاللَّـهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(5).
5- بيّن الله تعالى أن التوكل عليه هو منهج الأنبياء والرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، يقول تبارك وتعالى: {وَمَا لَنَا
أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}(6). وهي إشارة للمسلمين
أن يحتذوا حذو أولئك الرسل باعتبارهم قدوة لهم في عقائدهم وتصوراتهم. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: {حَسْبُنَا اللَّـهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(7) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(8)(9).
6- إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين عند الخروج من البيوت بالتوكل عليه وحده، حتى يكونوا في حمايته ورعايته إلى أن
يعودوا إلى إليها، لقول النبي ﷺ: «إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال
حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (10).
---------------------------------------
(1) الفرقان [58].
(2) الفاتحة [5].
(3) آل عمران [159].
(4) آل عمران [122].
(5) المائدة [23].
(6) إبراهيم [12].
(7) آل عمران [173].
(8) آل عمران [173].
(9) أخرجه البخاري (ص777، رقم 4563) كتاب التفسير.
(10) أخرجه أبو داود (ص717، رقم 5095) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا خرج
من بيته. والحديث صحيح

التوكل وفعل الأسباب
إن التوكل الصحيح هو طلب العون من الله تعالى للوصول إلى هدف أو تحقيق غاية، والأخذ بالأسباب المشروعة المؤدية إليها، فإذا
تُرك أحد هذين العنصرين فإن التوكل يفقد مضمونه ومفعوله، رغم أن الله تعالى قادر على تأمين كل شيء وإحقاق كل مصلحة وظفر
لعباده من غير علة أو سبب، ولا يعني هذا أن فعل السبب ينافي حقيقة التوكل؛ بل يؤكد عليها ما دام المتوكل يعتقد أن حصول الأشياء
تتم بأمر الله تعالى وليس من فعل السبب نفسه، ولكن الله جعل الربط بينهما سنة كونية لحكمة هو يعلمها، والمتأمل في منهج القرآن
والسنة النبوية وقصص الأنبياء والرسل عليهم السلام في دعواتهم سيجد هذه السنة واضحة وصريحة،
ويمكن الإشارة إلى بعضها من خلال الآتي:
1- في طلب الرزق، أمر الله عباده بالسعي والعمل من أجل أرزاقهم فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(1).
2- في الحرب، يطلب الله تعالى من المؤمنين الأخذ بأسباب المواجهة مع الأعداء من العتاد والتجهيزات العسكرية وغيرها، رغم
أنه تعالى قادر على هزيمتهم ودحرهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّـهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(2).
3- وفي قصص الأنبياء، أمر الله تعالى نبيه لوط عليه السلام قبل أن يحل بقومه العذاب أن يخرج بأتباعه بالليل حتى لا يلحق بهم
العذاب، رغم أن الله تعالى قادر على أن ينجيهم من غير هذا الخروج، فقال: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ
مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}(3).
4- وفي هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة، حيث خرج خفية مع أبي بكر رضي الله عنه، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان يستطيع أن
يخرج على مرآى من قريش ، من غير أن يلحق به أذى ، ولكنه أخذ بسبب الحماية والحيطة في ذلك، وجعل هجرته سرًا ، وكذلك
في سائر أعماله عليه الصلاة والسلام، فكان يلبس في الغزوات الدرع ويحمل السيف والترس، وكان يخطط قبل المواجهة كما حدث
في غزوة بدر حين استشار صحابته وأشاروا عليه بردم الآبار، وكلها أفعال أسباب لتحقيق الغاية والهدف.
5- في الشفاء من الأمراض، أمر النبي ﷺ بالتداوي والعلاج لحصول الشفاء، رغم أن الله تعالى قادر على أن يشفي عباده من غير
ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو قال دواء إلا داء واحدا قالوا
يا رسول الله وما هو قال الهرم» (4). وأيضًا جعل الله تعالى تحقيق الشفاء في مادة العسل.
--------------------------------------
(1) سورة الملك، الآية 15.
(2) سورة الأنفال، الآية 60.
(3) سورة هود، الآية 81.
(4) سبق تخريجه.

آثار التوكل على الله
إن التوكل على الله تعالى بالمنهج الصحيح يعطي نتائج وآثارًا إيجابية، تعود بالنفع والفوز للمتوكل في الدنيا والآخرة،
ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:
1 – دخول الجنة:
إن التوكل على الله تعالى من خلال مفهومه الصحيح سبب في دخول الجنة والفوز برضى الله تعالى والقرب منه، وقد سبق الإشارة
إلى الآيات القرآنية الدالة على ذلك، إلا أن رسول الله ﷺ أكدّ هذه الحقيقة بقوله: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب.
قالوا: ومن هم يا رسول الله قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون» (1).
2 – النجاة من المهالك والشرور:
ومن آثار التوكل على الله تعالى في الدنيا أنه ينجي صاحبه من شرور الأعداء ومكائدهم، وقد تكفّل الله تعالى بهذه الحماية في قوله
جل ثناؤه: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(2)، وقد ظهرت هذه الحقيقة، مع نبي الله إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار،
وحين قيل لرسول الله ﷺ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، بل إن نتيجة تلك المعاناة والصعاب التي لقيها الرسول ﷺ مع صحابته
أثمرت وأينعت حين توكلوا على الله تعالى، حيث تحولت تلك المعاناة بفضل عقيدة التوكل إلى فتح وظفر ونشر للإسلام في الجزيرة
العربية، ومن ثم في أرجاء المعمورة.
3 – الطمأنينة النفسية:
بالتوكل على الله تعالى تهدأ النفس وتطمئن بالسكينة المنزلة عليها من بارئها، حين فوّضت أمورها وشؤونها إليه، يقول تبارك
وتعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3) أي أن الله تعالى يكفي عبده المتوكل عليه الهمّ والحزن والقلق والاضطراب،
كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}(4)، ليس هذا فحسب؛ بل يجعله يعيش في ذروة السعادة النفسية في جميع
أحواله، في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، وفي السر والعلن، لأنه على قناعة تامة أن الذي خلقه تكفل بكل
حاجاته، وأنه أرحم به من الخلق جميعًا، ومن هذا المنطلق تعجب الرسول عليه الصلاة والسلام لأمر المؤمن الذي إذا
أصابه سرّاء شكر الله تعالى وإن أصابته ضرّاء صبر عليها.
4 – الوقاية من شرور الشياطين وهمزاتهم:
إن شرور الشياطين لا تدع الناس في راحة وهناء، ولكن المؤمن المتوكل على الله تعالى يتغلب عليها حين يسلم أمره لله تعالى
ويستعين به، يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال
يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي»(5). فالتوكل
على الله تعالى يقهر الشياطين ويدحرهم ويرد عليهم نزغاتهم وهمزاتهم.
5 – الإيجابية والإنتاج:
ومن آثار التوكل على الله تعالى تكوين الإنسان الإيجابي في الحياة، من خلال جانبين مهمين هما: الجانب السلوكي الذي يتعامل
فيه مع الآخرين بأخلاقه الإسلامية العالية، باللين والتسامح وحب الهداية والخير لهم، وهو الجانب الذي حث عليه رسول الله ﷺ
بقوله: «حرم على النار كل هيّن ليّن سهل قريب من الناس» (6). وقوله: «إن خياركم أحسنكم أخلاقًا» (7).
والجانب الثاني هو الجانب الإنتاجي الذي يبرز فيه أثر التوكل على الله تعالى في الالتزام بحقوق العمل وقوانينه، من حيث الدوام
والقيام بالأعمال الموكلة على أتم وجه من غير كسل أو تهاون، وكذلك العمل على الإبداع والابتكار في المجال الذي يعمل فيه
هذا الإنسان، بحيث لا يتوقف اجتهاده عند حد معين، بل يبذل ما لديه من مهارات ذهنية وعقلية وخبرات ومعارف في سبيل
تحسين المجالات التي يعمل ضمنها وتطويرها بشكل مستمر، وذلك بالتوكل على الله تعالى وطلب العون والقدرة منه جل
شأنه، وهو شأن المؤمن المتوكل على الله حق التوكل في كل حال وزمان ومكان.
6 – الرزق:
ومن أهم آثار التوكل على الله تعالى بالنهج الذي رسمه رسول الله ﷺ حصول المتوكل على رزقه وحاجاته المعيشية، كما ورد
في حديث البحث: «كالطير يغدو خماصًا ويروح بطانًا» لأن الله تعالى الذي خلق هذا الإنسان خلق معه رزقه ومعاشه من يوم
ميلاده إلى يوم أجله، لقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ}(8). إلا أنه جل وعلا يريد من عباده أن يسعوا في طلب ذلك الرزق ويعملوا له ويأخذوا بأسبابه، ومن ثم يطلبوا منه
جل ثناؤه التيسير في ذلك السعي ودوامه والبركة فيه، يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(9) حيث طلب من عباده السعي وتكفل هو بتأمين الرزق لهم.
وفي موضع آخر في كتاب الله جاء الربط واضحًا بين التوكل على الله والرزق، في قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(10).
----------------------
(1) أخرجه البخاري ص1015، رقم 5752) كتاب الطب،
باب من لم يرق. ومسلم (ص111، رقم 218) كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف
من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.
(2) سورة الطلاق، الآية 3.
(3) سورة الطلاق، الآية 3.
(4) سورة الزمر، الآية 36.
(5) سبق تخريجه.
(6) أخرجه الترمذي (ص566، رقم 2488) كتاب صفة القيامة، باب فضل كل قريب هين سهل.
وأحمد (1/ 415، رقم 3938). والطبراني في الكبير (19/ 346، رقم 10410). وابن حبان
في صحيحه (2/216، رقم 470). وهو صحيح بشواهده.
(7) أخرجه البخاري (ص1054، رقم 6035).
(8) سورة هود، الآية 6.
(9) سورة الملك، الآية 15.
(10) سورة الطلاق، الآيتان 2-3.

ما يناقض التوكل على الله
توجد أمور كثيرة تنافي حقيقة التوكل على الله تعالى وتناقضها، يقترفها كثير من الناس، بعلم أو جهل أو غير قصد، ولكنها جميعًا
مخالفات شرعية كبيرة، يترتب عليها آثام وعقوبات، ومن هذه الأمور:
1- إظهار الجزع والسخط وعدم الرضا بما قدره الله تبارك وتعالى، وهذا من الأمور الخطيرة التي تهدد النفس قبل أي شيء، من
خطر اليأس والقنوط من رحمة الله، وهذا ما يناقض حقيقة التوكل على الله، لأن هناك كثيرًا من الأمور الظاهرة التي يظنها الإنسان
ضررًا وهي في الحقيقة تحمل الخير والثواب له، وكذلك العكس، وهو معنى قوله تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ
وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}(1).
2- الذهاب للسحرة والمشعوذين والدجالين، أو التداوي بالحرام، أو التطير، وغيرها من الأمور التي تنافي التوكل على الله وتناقضه،
بل إن ذلك يدخل صاحبه في دائرة الشرك مع الله تعالى، من حيث لا يشعر، فقد يطلب المشعوذ أو الساحر من زائره أن يطأ المصحف
أو يجعله في دورة المياه أ شتمه، وغير ذلك من الوسائل الشركية والكفرية التي يجعلها شرطًا لشفائه أو إخراجه من مأزقه أو مما
يعاني منه. يقول عليه الصلاة والسلام: «من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة» (2).
3- عدم بذل الأسباب لتحقيق المراد، وهو ينافي حقيقة التوكل القائمة على العمل والسعي في الأرض، كالذي يطلب الرزق من غير
أن يعمل، أو يطلب الشفاء من غير أن يتداوى، فهذه الأمور تناقض سنة الله تعالى في الكون، وهذا ما دفع عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أن ينهر المتكاسل عن العمل ويأمره بالسعي والحركة، ثم يدعو الله بالرزق الحلال، وقد قال له مقولته المشهورة:
إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
4- الشك في اليقينات القرآنية أو النصوص النبوية الواردة في حقيقة التوكل وآثاره على حياة الإنسان، وهذا لا يناقض التوكل فحسب،
بل يخرج صاحبه من الملة، ويحل به ما حلّ بقارون وأمثاله.
5 – التملق الزائد الذي يخرج عن حدود الآداب العامة والعادات المألوفة، كالذي يجعل جلّ تفكيره وهمّه في الحياة إرضاء مسؤوله
في العمل أو الوزير أو صاحب الجاه، أو غيره من أجل أن يغدق عليه ببعض المتاع أو المال، وكأن هذا الوزير أو الغني هو المتكفل
برزقه وبقائه، وهذا يناقض حقيقة التوكل التي تربط الإنسان بملك الملوك وأغنى الأغنياء الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون.
-----------------------
(1) سورة البقرة، الآية 216.
(2) أخرجه مسلم (ص990، رقم 2230) كتاب السلام، باب الكهانة.

توصيــــات

وأخيرًا فهذه بعض الوصايا لأولئك القوم الذين ابتلاهم الله تعالى بالعجز أو المرض أو الفقر أو غيرها من الابتلاءات،
من أجل أن يصبحوا عناصر إيجابية فاعلة في أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، وهي في الوقت نفسه
عوامل معينة على تقوية التوكل على الله تعالى:
1 – تجديد الشعور مع الله تعالى: وذلك بالتواصل المستمر مع الله، وتقوية العلاقة معه في التقرب إليه بالطاعات والدعاء والذكر،
وقراءة القرآن وغيرها من العبادات، حتى تستقر النفس، لتنطلق بعدها للحياة بوجه آخر مختلف عما كانت عليه في السابق.
2 – ترك الأسباب المحرمة: وذلك بتبديلها بالأسباب المباحة والمشروعة، التي بيّنها الشرع وأقرّها العلماء، مثل ترك التداوي
بالحرام والمعاصي من شرب للخمور أو تناول للمخدرات، أو الوقوف على أبواب المشعوذين والسحرة، وإبدال ذلك باللجوء إلى
الله تعالى والوقوف على بابه، فهو أرحم بعباده من أنفسهم وذويهم وجميع الخلق، فلا يرد
دعوة عبده المنيب إليه بصدق وإخلاص.
3 – الاعتقاد أن الخير فيما قدره الله وإن كان ظاهره غير ذلك، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
4 – اتباع سبل الخير وملازمة أهل الخير، وذلك بتقوية الإرادة وإخراجها من دائرة العجز والكسل إلى ميدان الحركة والنشاط،
لأن الحياة قائمة على السعي من أجل إحقاق الحق ونشره وإبطال الباطل ودحره.
5 – القيام بالأعمال المقدور عليها وعدم تركها، وإن كانت يسيرة، أو كانت ثمرتها بعيدة المنال، يقول عليه الصلاة والسلام:
«إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليفعل» (1).
* * *
بهذه الصورة يتمكن الإنسان أن يؤدي دوره الحقيقي في الحياة، من خلال التوكل على الله تعالى وفق المنهج الذي رسمه
رسول الله ﷺ في حديث البحث، وينتقل من مرحلة الكسل والعجر والاتكال على الأماني والأوهام إلى
مرحلة العمل والجد والإبداع في واقع الحياة.
---------------------------------
(1) أخرجه أحمد (3/191، رقم 13004). والبخاري في الأدب المفرد (ص168، رقم 479)

حياة السعداء
ا. د فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
المشرف العام على شبكة السنة النبوية وعلومها


التعديل الأخير: