كريم الجنابي

مدير عام للمنتدى والمكتبة الالكترونية
طاقم الإدارة
طـــاقم الإدارة
★★ نجم المنتدى ★★
نجم الشهر
عضو المكتبة الإلكترونية
عضوية موثوقة ✔️
كبار الشخصيات
إنضم
1 ديسمبر 2012
المشاركات
25,562
مستوى التفاعل
70,216
النقاط
10,820
الإقامة
ZYZOOM
غير متصل
01.R7pz5.gif


شكر الله تعالى

bqnwm.gif

عبادتان قلبيتان عظيمتان يسببان الخير المطلق للإنسان، ومن هذا الخير: الخير للنفس قوة وبناء ومعالجة. هما شكر الله تعالى
على نعمه، والصبر على بلائه، فيشكلان معلمًا من معالم منهج الإنسان في هذه الحياة ليكون سعيدًا في الدنيا والآخرة، نعرض
أولاً ما يتعلق بالشكر، ونفتتح بما رواه مسلم رحمه الله:

حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «
عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ
إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ
»(1).

حقيقة الشكر:

الشكر كما في مفردات الراغب: تصور النعمة وإظهارها، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها، ودابة شكور:
مظهرة لسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل: أصله من (عين شكرى) ممتلئة، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
وأورد القرطبي عبارات لبعض العلماء في معنى الشكر منها: أن الشكر هو الاجتهاد في بذل الطاعة مع اجتناب المعصية في السر والعلانية،
وأقل الشكر هو الاعتراف بالتقصير في شكر المنعم، ولذلك قال تعالى: {
اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}(2)، فقال داود: كيف أشكرك يا رب، والشكر
نعمة منك؟ قال: الآن قد عرفتني وشكرتني، وقيل: الشكر: أن لا يعصى الله بنعمه، وقيل: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات،
ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسموات(3).

وبذلك يمكن
تعريف الشكر: بأنه اعتقاد نعمة المنعم سبحانه وإظهار هذا الاعتقاد على اللسان والجوارح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه مسلم (ص1295، رقم 2999) كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير.
(2) [ سبأ: 13]
(3) تفسير القرطبي 1/271.

77e4326f112db7243a8aaba29ee0d539.gif

أنواع الشكر

والشكر ثلاثة أنواع:

1- شكر القلب:

هو الشعور الدائم للمنعَم عليه بفضل الله وكرمه ومنّه بما أنعم عليه من النعم الظاهرة والباطنة، وترجمة هذا الشعور إلى حب لله
ورسوله ﷺ، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}(1). حيث سخر الله تعالى لهذا الإنسان كل ما حوله من الكائنات
وما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض تكريمًا له وترفيعًا لشأنه.

وإعمار القلب بهذا الحب وهذا الود من شأنه أن يؤثر على الجوارج فيجعلها تتحرك وفق منهج الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام،
يقول الله تعالى: {
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).

2- شكر اللسان:

وهو الثناء على الله المنعِم، بالكلام وعبارات الشكر المتعددة، والتحدث بأنعم الله تعالى وأفضاله التي لا تعد ولا تحصى، وهذا الركن هي
الوسيلة التي ينقل الإنسان من خلالها شكر الله من القلب إلى الجوارح، ويعدّ شكر النعمة باللسان نوع من الذكر لله تعالى وقد أمر الله
به العباد كما في قوله:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}(3).

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال: «
يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل
صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
»(4).

ويقول عليه الصلاة والسلام: «
من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر فقد
أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليله
»(5).

ويدخل في هذا النوع من الشكر كل ذكر لله من قراءة للقرآن أو تسبيح أو تهليل أو استغفار، ما دام اللسان رطبًا بذكر الله تعالى.

3-شكر سائر الجوارح:

وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، فهو من أعظم أنواع الشكر وأصدقها، ذلك أن ما ينبض به القلب من الحمد والشكر وكذلك ما يردده
اللسان يترجم إلى واقع عملي، ومعظم أمور الدين إذا لم تتحول إلى عمل فلا يعد شيئًا في ميزان الشرع، وقد وردت في كتاب الله تعالى
مقارنات كثيرة وملازمات متعددة بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى في سورة العصر: {
وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ .
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
}(6)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
}(7).

وقد صحّ عن الحسن رضي الله عنه قوله: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل.
فبذلك يكون الشكر العملي من أسمى وأعظم أنواع الشكر وأكثرها قبولاً عند الله، واستعمال الجوارج في التعبير عن شكر الله
تعالى على نعمه وأفضاله تتمثل في كل أنواع الخير والطاعات، وترك كل المعاصي والمنكرات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [لقمان: 20]
(2) [آل عمران: 31]
(3) [الضحى: 11]
(4) أخرجه أبو داود (ص225، رقم 1522) كتاب الوتر، باب الاستغفار. والنسائي (ص182، رقم 1304)
كتاب السهو، باب نوع آخر من الدعاء. وأحمد (5/233، رقم 22172) وهو حديث صحيح.
(5) أخرجه مسلم (ص1171، رقم 5073) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح
(6) سورة العصر
(7) [الكهف: 107]

bdabf022f71a477f0ed28ef266309505.gif

آثار الشكر على النفس والسلوك

بما أن شكر الله تعالى وحمده على نعمائه وآلائه نوع من الذكر، وخُلق جميل على إدراك فضل الله تعالى على العبد، فإن لهذا الخُلق
آثار متعددة على نفسية المنعَم عليه وعلى سلوكه وأطباعه، بل إن هذه الآثار تتعدى إلى آخرته فينال بالشكر رضوان الله تعالى
والقرب منه وعفوه ورحمته، ومن أهم تلك الآثار:

1- إن العبد الشاكر ينال قبل كل شيء رضوان الله وأجره العظيم يوم القيامة، لقوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(1). وهذا غاية
ما يتمنى العبد في سعيه في هذه الحياة.

2- إن شكر الله تعالى يولّد الشعور بالرضى والقرب منه جلّ وعلا، حيث يحس العبد حينها أن الله خصّه بكرمه فيقبل عليه بالتوبة
والاستغفار والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، ثم إنه يبادر إلى من حوله فيحسن إليهم، ويبذل جهده في إدخال السرور إلى
قلوبهم كما أدخل الله المسرة إلى قلبه بإسباغ النعم عليه، فتشتد بذلك الروابط الاجتماعية بين الناس
ويضمحل الحقد والضغينة بينهم.

3- إن شكر الله على نعمه وبأنواع الثلاثة يجعل الإنسان في حالة من التواصل المستمر مع ربه، فلا ينسى فضل الله عليه ليظلم
الناس أو يسلب حقوقهم، أو يقصّر في العبادات وأداء الفرائض، ومن أجل ذلك تكرر الحث على الشكر في كتاب الله وتكرر ذكر
النعم والآلاء لعل الناس يتفكروا فيها فيشكروا الله عليها بالتقرب إليه بالطاعات والعبادات، كما في قوله تعالى في نهاية كثير من
الآيات:
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، كما أثنى الله عز وجل على عباده الشاكرين وجعل الشكر شرطًا لدوام النعمة وزيادتها، فقال تعالى:
{
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(2)، وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(3).

4- إن شكر النعمة، يؤدي إلى الطمأنينة والراحة النفسية الدائمة، لأنه لم يجعل المال في قلب المنعَم عليه وإنما جعله في يده، ولم
يفاخر به على الآخرين وينسبه إلى نفسه، وإنما يرجعه في الأصل إلى الله تعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء، ويرزق من يشاء بغير
حساب، كما أنه اعتقد أن هذه النعمة وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتسخيرها في طاعة الله وإقامة حكم الله، وإنما هو مكلف
للقيام بهذه المهمة ومحاسب عليها يوم القيامة.

إن هذا التصور يلقي بظلال من الراحة إلى نفوس المنعم عليهم لأنهم ساروا على الطريق المرسوم لهم من ربهم، ثم إنه يخرج من
قلوب الفقراء والمحتاجين في المجتمع عوامل الحقد والنقمة على المنعم عليهم، فينشأ بين الطرفين الود والتعاون والوئام، وينجلي
كل أسباب الضغينة والكراهية التي تؤدي إلى خلخلة المجتمع، وإفشاء القلق وأمراض النفس بين الناس التي
قد تؤدي إلى النهب والسرقات أو القتل أو أية جرائم أخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [آل عمران: 145]
(2) [آل عمران: 144]
(3) [إبراهيم: 7]

35382


5- إن النفس التي يملأها الخير هي النفس المطمئنة العامرة بحب الله وحب رسوله ﷺ وحب المؤمنين، فلا تجد فيها ما يكدر من صفوها،
أو يوسوس لها الاستعلاء والاستكبار على الآخرين.لأن من مداخل الشيطان إلى النفس أن يوحي إليها أن كل ما عندها من الخير
والنعم هي من صنعها وكدها وتعبها، وليس لأحد فضل عليها أو منّة، وهو مستنقع خطير
يصطاد الشيطان من خلاله الضعفاء من البشر.

6- إن الاستقرار النفسي الذي ينتج عن شكر نعم الله يؤدي إلى الاستقرار والأمن في المجتمع، وهو أمر مهم للحفاظ على تماسك الناس
فيما بينهم، وكذا الحفاظ على راحتهم النفسية، وعلى العكس من ذلك فإن أي اضطراب في النفس أو غضب سينقلب
سلبًا على الناس وعلى المجتمع، لذا كان الشكر أمرًا مطلوبًا لتفادي هذا الخطر على النفس قبل البشر.

7- الخيرية المطلقة للشاكر في الدنيا والآخرة كما وَرَدَ في الحديث السابق، حيث جاءت هذه الخيرة نكرة والنكرة تعم، وبذلك يدخل
العبد الشاكر لنعم الله تعالى في محتوى الخيرية ويصبح جزءًا صالحًا من هذه الأمة التي امتدحها الله بهذه الصفة
المباركة {
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(1).

8- إن شكر النعم ومقابلتها بالعمل الصالح وكل ألوان الطاعات والعبادات، هو نوع من الاقتداء بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام
الذين هم أعالي الناس، وأكثرهم حمدًا وشكرًا لأنعم الله، وأعلمهم بحقيقة وجودهم وما سخّر الله لهم من النعم لبقائهم وسعادتهم في
الحياة، فلم تغريهم الدنيا وزينتها، من كثرة الأتباع أو قيادة الناس، لم يغرهم علمهم وحجتهم، لأنهم على دراية كافية بحقيقتها
وأنها فضل من الله تعالى وفي الوقت نفسه ابتلاء واختبار.

وقد وصف الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، بأنه كان عبدًا شاكرًا لما أُغدق عليه من النعم والآلاء، فقال: {
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
}(2).

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر؟ قال: «
أفلا أكون عبدًا شكورًا«(3).

9- إن العبد الشاكر لنعم الله تعالى ينال محبة رسوله ﷺ، للحديث الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أخذ بيده
وقال: «
يا معاذ والله إني لأحبك. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني
على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
«(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [آل عمران: 110]
(2) [النحل: 120-121]
(3) [صحيح البخاري:6471]
(4) سبق تخريجه

1.png

جحود النعمة ونكرانها

إن كثيرًا من الناس لا يقدرون قيمة تلك النعم ولا يضعونها في مكانها الذي خصصه الله لها، ويتبجحون بها كل تبجح، فيبذرون أموالهم
تبذيرًا في أشياء لا منفعة فيها ولا مصلحة، فضلاً عن إسرافها في المحرمات والمعاصي والصد عن سبيل الله، ثم إنهم ينسبون كل
ما تحل بهم من نعم وأفضال إلى أنفسهم، فيتجبرون بها على رقاب الضعفاء ويتكبرون ويتباهون بها بين الناس دون أن يضعوا
في الحسبان نصيب إخوانهم الضعفاء فيها، أو مساعدتهم والتودد إليهم من خلالها.

فالذي هذا شأنه يكون منكرًا لنعمة الله بدلاً من شكره والثناء عليه، وكذلك الذي لا يعمل بعمله وقدراته في خدمة الناس ولا يتقن بما
وكل إليه يكون منكرًا للنعمة وجاحدًا لها، والذي يفرط بأوقاته ويضيعها في اللهو واللعب والمحرمات منكر لنعمة الله، وإن الذي
لا يشكر الله على الأمن والرخاء الذي يحيط به من كل مكان ويتعدى من خلاله على حقوق الآخرين وظلمهم فإنه جاحد للنعمة
ومنكر لها، وكل نعمة يمنحها الله تعالى للعبد فلا يستعملها لرضى الله وطاعته وقضاء حاجات الناس
وحل مشكلاتهم تعد نوعًا من الحجود والكفر لهذه النعمة.

يقول جل ذكره: {
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}(1).
* * *
ولكن ما هي النتيجة المترتبة على كفر نعم الله المغدقة على العباد؟
إن سنة الله ماضية في خلقه منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى أن تقوم الساعة، والقرآن الكريم حافل بقصص الأمم الغابرة
التي
جحدت أنعم ربها وكفرت بها وما حل بها من عذاب وعقاب، أحيانًا بالريح وأخرى بالرجفة وثالثة بخسف الأرض، وغيرها

من العقوبات التي كانت نتيجة كفرهم لأنعم الله عندما أغرقوا في ملذات الدنيا وشهواتها وزخرفها، يقول الله تعالى عن قوم سبأ:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
}(2).

وقوله تعالى: {
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
}(3).

ويقول عز وجل: {
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
}(4)،بل إن الخسارة الكبرى لكفر النعمة تكون يوم القيامة، حين يقف الإنسان بين يدي خالقه، فتُجلى
له صحيفته التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فيرى ما اقترف من كبائر ومعاص مقابل ما أغدق الله عليه من الخيرات والبركات،
وقد صوّر الله تعالى ذلك المشهد في الآية الكريمة: {
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُون
}(5).

وقد أخبر النبي ﷺ أن النساء أكثر أهل النار للعلة نفسها فقال: «
ورأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل يكفرن بالله،
قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت ما رأيت منك خيرًا قط
«(6).

هذا فضلاً عن الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية التي تنجم عن كفر النعمة، حيث لا يقوم المنعَم عليه بأداء الواجب نحو
هذه النعمة من الإنفاق في سبل الخير وإعانة المعوزين والفقراء، وهذا يشعل نار الغضب والحقد في نفوس الآخرين، والشاكرون
القائمون بأداء هذا الواجب قلة، كما قال الله تعالى: {
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(7)، وقال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(8)،
ومن أجل ذلك تزداد مثل هذه الأمراض والمشكلات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [البقرة: 152]
(2) [سبأ: 15-17]
(3) [القصص: 58- 59]
(4) [النحل: 112]
(5) [الأحقاف: 20]
(6) أخرجه البخاري (ص8، رقم 29) كتاب الإيمان، باب إفشاء السلام. ومسلم (ص366-367،
رقم 907) كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف.
(7) [الأعراف: 7]
(8) [سبأ: 13]

4.png

وسائل معينة على شكر الله تعالى

هذا وإن لشكر نعم الله تعالى وآلائه على الإنسان وسائل ومعينات، تساعد على تذكر النعمة
والقيام بالواجب الشرعي نحوها، ومن تلك المعينات:

1- التفكر والتأمل في الأنعم المغدقة والتي لا تعد ولا تحصى، ابتداء من نعمة الحواس وسائر الجوارح، ونعمة الصحة والعافية
والقوة والمال والولد، حيث إذا فقد الإنسان شيئًا من هذه النعم، يُرى عليه أثر ذلك، فيختل جانب مهم في حياته، بل إن كثيرًا من
النعم لو فُقدت من الإنسان جعلت حياته ضربًا من العذاب والاضطراب والشقاء، ومن أجل هذا فإن التأمل والتفكر في هذه النعم
القريبة جدًا من كيان الإنسان ضرورة وسبيل للقيام بواجب الشكر والثناء على المنعِم جلّ وعلا.

2- أن ينظر الإنسان دائمًا إلى من هو أسفل منه، وليس إلى من هو أعلى منه في المال والشهرة والمنصب، لأن ذلك يولّد الحسد
والبغض بين الطرفين، بل ربما يسلك الأدنى سبلاً غير مشروعة من أجل الوصول إلى ما وصل إليه غيره من الثراء أو المكانة
الاجتماعية، أو الشهرة وغيرها، ومن أجل ذلك وصّى النبي ﷺ المؤمنين بالابتعاد عن هذا الخُلق الذميم حتى لا يقعوا في شراك
الشياطين ويتبعوا الطرق المحرمة لتحقيق غاياته ومآربه فقال عليه الصلاة والسلام: «
انظروا إلى من هو أسفل منكم
ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله
«(1).

3- الدعاء، وهو الوسيلة المباشرة بين العبد وربه، يبث عبرها همومه وشكواه لخالقه، ويطلب منه العون والنصرة والتوفيق،
ويسأله وحده أن يديم عليه ما هو فيه من نعمة الإيمان والصحة والعافية والمال والأولاد، ولا يعتمد في ذلك على أحد سواه،
ويسأله في الوقت نفسه أن يعينه على الصبر إذا حُرم بعض تلك النعم.

4- قراءة القرآن وتدبر آياته، بصورة دائمة، لأنها من الذكر الذي يدخل في باب الشكر باللسان، وقد أمر الله تعالى عباده بتلاوة
القرآن وتدبره حتى لا ينقطع الحبل بين العبد وربه، ويبقى القلب موصولاً مع الله أبدًا، فيتجنب العبد المنعَم عليه حينها البطر
والاستعلاء على الناس، ويخاف أن يتعرض لحقوقهم ودمائهم وأموالهم.

6SvRLgM.png

وأخيرًا:

فلا بد من الإشارة إلى مجموعة من الوصايا لشرائح مختلفة من أبناء المجتمع، كل حسب حاله:
ليعلم الغني أن ما أوتي من مال ليس من حوله وعلمه وقوته وإنما هو عطاء من الله ونعمة من جانب، وابتلاء واختبار من جانب آخر،
وأن هذا المال هو مال الله تعالى والإنسان مستخلف فيه، وإذا شاء الله جعله محقًا وأثرًا بعد عين، فلا يغرن الإنسان بذلك وينسى
فضل الله عليه وينسى شكره، فيتكبر ويتجبر بين خَلق الله، فقد علَّم القرآن الأمةَ دورسًا وعبر في قصة قارون حين أغراه ماله
وثراؤه إلى أن تبجح بالقول{
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}(2).

فكانت نتيجة ذلك التكبر والغرور{
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ}(3).
* * *
ثم ليعلم الشاب القوي، صاحب النشاط المتجدد والحركة والحيوية، أن هذه القوة والحياة في جسمه إنما هو نعمة ومتاع ينبغي استغلالها
في سبل الخير وفي سبيل الله، فلا تكون وسيلة لإيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، لأن الله الذي منح هذه القوة والنشاط يستطيع أن
يُذهبها بين لحظة وأخرى، وليكن في بال كل شاب وفتاة قول رسول الله ﷺ: «
سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
إمام عدل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل
دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه،
ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه
«(4).
* * *
ثم وصية لكل إنسان معافى من الأمراض والأوباء أن يخصص أوقاتًا معينة لزيارة المستشفيات ليرى إخوانه المرضى الذين
يعانون الأمراض المختلفة، ويأنّون ويتألمون معظم أوقاتهم، ليرى ذلك ويعرف فضل الله عليه بما أسبغ عليه من نعمة
العافية والصحة، فإن ذلك عامل مهم للقيام بشكر الله تعالى وأداء ما يوجب نحو نعمه ومعافاته له.

وهكذا فإن من أهم الخطوات الواجبة على الإنسان التأمل والتفكر بأنعم الله تعالى وفضله ومنّه عليه، لتتحرك إرادة الشكر في قلبه
فيردده اللسان ومن ثم تترجمه الجوارج إلى واقع من خلال المحافظة على الفرائض والطاعات، والإحسان إلى الناس وعدم
الاستعلاء عليهم، حتى تبقى النفوس طاهرة ومستقرة من الأحقاد والضغائن، ويبقى المجتمع في قوة وترابط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه مسلم (ص1283، رقم 2963) كتاب الزهد، باب الدنيا سجن المؤمن.
(2) [القصص: 78]
(3) [القصص: 81]
(4) سبق تخريجه

zm.gif

حياة السعداء

ا. د فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
المشرف العام على شبكة السنة النبوية وعلومها
13.zp2FZ.gif

 

التعديل الأخير:
توقيع : كريم الجنابي
جزاك الله خيرا أستازنا الغالي أبو عبدالله
تحياتي لك
 
توقيع : MesterPerfectMesterPerfect is verified member.
شكراً على حضورك ومشاركتك
 
توقيع : أسيرالشوق
توقيع : كريم الجنابي
توقيع : كريم الجنابي
عودة
أعلى