ابوفتحى ss

زيزوومى مبدع
إنضم
20 مايو 2008
المشاركات
1,826
مستوى التفاعل
43
النقاط
680
الإقامة
makka
غير متصل
012412006.jpg


د. هشام صقر
لم تمض سوى أيام على غزوة مؤتة؛ حتى جهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا بقيادة عمرو بن العاص (الذي لم يمض على إسلامه إلا أربعة أشهر) إلى ذات السلاسل لتأديب قضاعة التي غرَّها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم، فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدَّم عمرو في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار (فيهم أبو بكر وعمر وغيرهما)، فلما بلغه أن لهم جموعًا كثيرة، أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب مددًا، فجاءه المدد بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وانهزمت قضاعة أمام المسلمين، ورجعت هيبة الإسلام لأطراف الشام.. هذا إجمالاً أما التفصيل فكما يلي:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو وكلَّفه بقيادة جيشٍ من المسلمين إلى ذات السلاسل، وخرج عمرو بالجيش، وكان الجو باردًا، فطلب الجند من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد النار، فأبى السماح لهم بذلك، فلما اشتدَّ البرد طلب عمر بن الخطاب من أبي بكر الصديق أن يكلم عمرو في الأمر مرةً أخرى، فلما فعل رد عمرو بحزم: لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها، وغضب عمر من الرد، فقال أبو بكر له: يا عمر لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتطاوع ولا نختلف، وما يدريك يا عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّره علينا؛ لأنه أخبر منا بالحرب وفنونها.

ولما جاء المدد- أبو عبيدة- قدمه المهاجرون ليؤم الصلاة، فأبى عمرو وقال: أنا الأمير وأنتم مددٌ لي، فقال المهاجرون: كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فأبى عمرو، واستجاب أبو عبيدة له.

وكان أن احتلم عمرو في ليلة باردة، فتيمم، ثم صلى بأصحابه الصبح متيممًا، وعندما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، وأرادوا مطاردتهم (وقيل وجدوا على مدِّ البصر غنائم تركها أعداؤهم فأرادوا أن يجمعوها) فمنعهم عمرو من ذلك، ولما رجع الجيش شكا بعض الصحابة قائدهم عمرو بن العاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور أربعة:
1- عدم السماح لهم بإيقاد النار في الليل البارد.
2- إصراره على أن جيش أبي عبيدة مدد وأنه الأمير.
3- عدم السماح للجيش بمطاردة الأعداء بعد انهزامهم.
4- تيممه رغم وجود الماء وإمامته لهم في صلاة الصبح متيممًا.

فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عمرو، وسأله في هذه الأمور، فأجابه بأنه رفض إيقاد النار خشية أن يرصدهم الأعداء فيباغتوهم، وأنه من طلب المدد للجيش فمن يأتي هم مدد له لا جيشًا منفصلاً، كما رفض مطاردة الأعداء خشية أن يكون للعدو مدد فيكمنون للمسلمين، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، أما مسألة التيمم فقال إن البرد كان شديدًا في هذه الليلة، وأنه خشي الهلاك واستدل بقوله تعالى: @831;وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا@830; (النساء: من الآية 29)، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا. وهذا السكوت إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم سأل عمرو الرسول صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عائشة"، فقال عمرو: ما عن هذا سألتك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبوها"، فقال عمرو: ثم من؟ فقال: "عمر"، قال عمرو: فظللت أسأله ويذكر أسماء أخرى حتى ظننت أنه لن يذكرني فتوقفت.

وهذه الأحداث مجمعة من مصادر منوعة متعددة ومختلفة في درجة صحة أسانيدها، ومنها (السيرة النبوية) للصلابي، و(السيرة النبوية الصحيحة) لأكرم العمري، (مغازي رسول الله) لعروة، (غزوة الحديبية) لأبي فارس، (القيادة العسكرية في عهد الرسول) دار القلم، و(فتح الباري) لابن حجر وغيرها).

دروس تربوية:
1- اختار النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص (والذي أسلم منذ أربعة أشهر فقط) لقيادة جيش من المسلمين فيهم كبار الصحابة وشيوخهم؛ مثل أبي بكر وعمر، فالقائد قد يختار حديث عهد بالدعوة للقيادة في مهمة يصلح لها، وله فيها كفاءة، وعلى الرغم من وجود من هو أقدم بل وأعلى "كعبًا" في الدعوة، فيكون ذلك توظيفًا للجديد، وتدريبًا له، واكتشافًا لأداءاته العملية في الواقع، كما لا ينقص ذلك من قرار القديم المخضرم.

2- الاختيار نفسه فيه تربية للشيوخ والقدامى على الالتزام بقيادة أحدثهم في الدعوة دون غضاضة أو فتنة، بل بانضباط كامل حتى فيما يخالفون فيه قائدهم من اجتهاد.

وإن هذا الأمر ضروري لمن اعتاد القيادة، فالجندية طريق القيادة كما قيل، والبشر قد تألف قلوبهم المكانة، فتختلط النية (لماذا لا أكون القائد، لماذا أترك موقع القيادة،...).

3- وهذا الاختيار أيضًا فيه إشارة إلى الدفع بالجدد إلى مهام قيادية ولو جزئية، ما داموا مؤهلين لذلك، والصبر عليهم؛ حتى تتدرب فئات من الجدد على المهام القيادية، ويتم تقييم أداءاتهم، وتطوير تربيتهم وتدريبهم، فتتسع القاعدة القيادية في الدعوة.

4- للقائد حق الاجتهاد، وبل واجب الاجتهاد واتخاذ القرار والمضي قدمًا، خاصةً في الأمور العاجلة أو الحرجة كمواجهة الأعداء، والقاعدة (أن القائد تكون له صلاحيات ثم تكون المحاسبة بالمعروف، وبدون صلاحيات ومحاسبة لا يمكن تربية قادة أو نموهم).

قد اجتهد عمرو في أمور أربعة، وشكا أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل، وراجع النبي عمرو، وسمع منه وقبل أو أقرَّ اجتهاده.

5- ويتجلى فقه إبداء الرأي والنصيحة والمراجعة للقائد في مسألة إيقاد النار بالليل، إذ أن التكليف الأصلي من القائد كان المنع، ولما أراد عمر (وغيره) مراجعة ذلك التكليف، طلب الفاروق من أبي بكر أن يقوم بالمهمة، ولعل السبب في ذلك أن عمر يعلم من نفسه شدة وقوة قد تصطدم مع شدة وحزم القائد (عمرو)، فتكون فتنة لا يقبل عمر أن يكون سببًا فيها، فاختار أكثر الصحابة لينًا وحكمةً وأقدمهم ليناقش عمرو، ويستأذن شيخ الصحابة أبو بكر القائد في الأمر، فيرفض عمرو بصيغة شديدة وحادة (لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها)، ولا يرد أبو بكر أو يعلق (مثل أن يقول: كان يكفي أن ترفض، ولكن لا يصح أن تخاطب مثلي بهذا الشكل، ولا أن تتحدث عن إخوانك بهذا الأسلوب .....، أو مثل ذلك)، بل ينسحب في هدوء ويعود إلى أصحابه، فلما اعترض عمر على أسلوب عمرو في الرد، بادر أبو بكر بالرد واحتواء الموقف بتذكير عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمَّر الصحابة بأن يتطاوعوا، أي يلينون بين يدي إخوانهم ويطيعون، وألا يختلفوا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر عمرو عليهم لخبرته العالية في الحرب والقتال، أي أنه يستحق القيادة ويستحق الطاعة، دون الدخول في أسلوب الكلام، وذلك على الرغم من حداثته في الإسلام، بل إن أبا بكر لم يشك أن هؤلاء هم الجنود القادة، أو القادة الجنود، وما لم نركز في تربيتنا على إنتاج مثل هذه النوعيات، بإذن الله وفضله، فإن مستقبل الدعوة يكون في خطر عدم وجود قياديين يمكنهم أن يلينوا ويطيعوا لإخوانهم من أقرانهم أو الأحدث منهم، وهذه معضلة قد يظن البعض أنها صغيرة، ولكن الحقيقة أنها مهمة للغاية والكلام المزعوم عن التيار الأصولي والتيار الإصلاحي داخل الدعوة مثال لمثل ذلك، وفي هذا الكفاية.

6- أنا القائد أم أنت: يصل جيش بقيادة أبي عبيدة بن الجراح إلى جيش عمرو، وتظهر وجهتان من النظر: الأولى أن يكون كل منهما قائدًا على جيشه ويتعاونان، الثانية أن ينضوي جيش أبي عبيدة تحت إمرة عمرو.

المسألة الأولى: بداية أن نلاحظ أن هذا الخلاف ليس خلافًا دنيويًّا أو طمعًا في رئاسة، وإنما هو خلاف إداري تنظيمي، عرضت فيه وجهات النظر المختلفة.

المسألة الثانية: هي الخلفية النفسية لدى المهاجرين من تقدير عظيم لشخصية أبي عبيدة الذي أسماه النبي صلى الله عليه وسلم أمين الأمة، وقال عنه عمر زمن خلافته: من مثلك يا أبا عبيدة، كلنا غيرتنا الدنيا إلا أنت، وهذه المسألة قد تؤثر على التفكير أو الاختيار أو القرار، بينما هي ليست محل النقاش أو موضوع التفكير، إذ ليست قضية الأفضلية المطلقة هي محل النقاش والموضوع، فوجب خفض تأثير هذه العاطفة على النفوس عند مناقشة مسألة إدارية أو تنظيمية.

إن هذه الظاهرة (التأثيرات العاطفية والانطباعية) يجب معالجتها تربويًّا في مناقشاتنا وحواراتنا وطرق تفكيرنا؛ حتى تغدو الموضوعية هي السمت الغالب.

المسألة الثالثة: هي أنه بالقادة الواعين المخلصين تدرأ الفتن؛ إن الاستجابة السلسة السريعة لأبي عبيدة أغلقت أبواب الفتنة والشيطان (بامتداد الجدل وتصاعده ربما إلى إصرار وتعصب.....).

إن نجاح العمل الجماعي مرهون بوجود مثل هؤلاء القادة الجنود أو الجنود القادة، أصحاب الخلق الرفيع، والتقدير الواعي للمواقف، والقدرة على التنازل بيسر وسرعة حفاظًا على الصف، ثم الالتزام بذلك عمليًّا.

المسألة الرابعة: أن الراجح فعلاً هو رأي عمرو، ويشهد لذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقبوله.

7- التحكم في نشوة النصر والحماسة، فانتصار المسلمين على عدوهم في المعركة أغرى الجنود أو بعضهم، باقتراح مطاردة المهزومين للإجهاز عليهم (أو لتحصيل الغنائم المتروكة وهي حق لهم)، لكن القائد عمرو كان تقديره مختلفًا، فالمهمة قد تمت، والهدف قد أنجز (تأديب قضاعة وإرجاع هيبة الإسلام إلى أطراف الشام)، مع احتمال وصول مدد إلى العدو، وتجميع فلولهم، والتمكن لجيش المسلمين، فمنع عمرو الجيش من مطاردة الأعداء، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

إنه من المهم أن تقدر القيادة الأهداف العامة والمرحلية والمهام التي تتأسس عليها، ثم تضع كل هدف والمهام لتحقيقه في الموضع المناسب دون غلو أو تهوين.

كما يجب ألا تسمح القيادة لحماس الأعضاء (خاصة الشاب منهم) بالتوسع في الهدف والمهام المتعلقة به، أو المبالغة في تقدير ما تحقق بفضل الله؛ فتختل موازين فهم المرحلة التي تمر بها الدعوة والأولويات المتعلقة بها.

8- التعامل مع الاجتهاد الفقهي والمسائل التقديرية، لقد اجتهد القائد عمرو في موضوع التيمم والقصة شهيرة، لكن اللافت للنظر عدة أمور؛ أولها: أنه رغم اعتراض البعض على هذا الاجتهاد بمعنى الاختلاف في تقدير الضرورة إلا أنهم صلوا خلف الإمام المتيمم، ولم يحاول أحدهم إعادة الصلاة بعد ذلك منفردًا أو جماعةً. وثانيها: أنه لم يتهم هؤلاء الصحابة عمرو بأنه حديث عهد بالإسلام، ولا يحق له الاجتهاد، خاصةً في وجود كبار الصحابة بالجيش، ولو كان مثل هذا الأمر في زماننا لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستمر الجدل حول المسألة شهورًا طوال....، لقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر ضمن ما سألوه، فلما أقر اجتهاد عمرو (بضحكه وسكوته) انتهى الأمر.

يجب أن يتربى شباب الدعوة على فهم الأساسيات الشرعية، وفقه الاختلاف؛ حتى لا يقعوا في دائرة التنطع (كما وقع غيرهم) فترتبك العديد من الأولويات في فهم الإسلام، أو يقعوا في دائرة التسيب الشرعي لقلة علمهم وفهمهم، فيحيدوا عن النهج والسلوك الإسلامي الصحيح.

9- وأخيرًا، بعد أن أجاب عمرو على مراجعات النبي صلى الله عليه وسلم له في المسائل الأربع، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه اجتهاده فيها، سأل عمرو النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه، وربما يكون اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو قائدًا لجيش فيه مثل هؤلاء الأفذاذ من الصحابة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على اجتهاداته، ألقى في روع عمرو أنه أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو قريب من ذلك، فسأل سؤاله، ونلاحظ الأدب النبوي الكريم والذكاء في الرد- رغم فهم النبي صلى الله عليه وسلم لمغزى السؤال والله أعلم- أنه أجاب في اتجاه آخر غير مراد السائل، فقال: عائشة، فلما أصر عمرو على سؤاله أجابه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ليدرك عمرو تدريجيًّا من الإجابة حقائق الأمور، ودون نقاش مباشر فيها، ما دام لم يسأل بشكل مباشر عنها، وحين أدرك عمرو المسألة توقف عن السؤال، وتحسب أن المسائل الأساسية في الموضوع هي:
أولاً: لا يتم اختيار الأقرب إلى النفس أو القلب للقيادة أيًّا كان نوعها، بل هو اختيار موضوعي على أساس الكفاءة والقدرة فقط، دون التأثر بالمشاعر أو الانطباعات الشخصية.

ثانيًا: أن الأفضلية (نتيجة الكفاءة) في مهمة أو مهمات لا تعني الأفضلية المطلقة، فهذا أمر وذاك أمر مختلف تمامًا، والأهم منهما الأفضلية عند الله، والتي لا يعلمها إلا هو، ويجب أن نسعى إليها دومًا بالتجرد والإخلاص والاستخفاء بالعمل عن الرياء والسمعة.

ثالثًا: معالجة النبي صلى الله عليه وسلم التربوية الرائعة في لقائه مع عمرو، بدءًا من المراجعات الأربع، وانتهاءً بالرد على سؤال عمرو.

إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته تحوي كنوزًا من فقه التربية لأصحابه؛ إن الجماعة المسلمة المباركة الأولى التي حملت هذا الدين حق الحمل، وبلغت كلمات الله إلى الآفاق، وجاهدت لتكون كلمة الله هي العليا، بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون دومًا النموذج والقدوة التي نتطلع إليها، ونجتهد مستعينين بالله في مقاربتها، وصدق عمر (رضي الله عنه)؛ حين قال: كنا أذل الناس فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
 

توقيع : ابوفتحى ss
الله واكبر
 
توقيع : ابوفتحى ss
rdd7ng3.gif
 
حياكم الله
 
توقيع : ابوفتحى ss
بارك الله فيك
 
توقيع : مـوآدع
جزاك الله خيرا اخى الحبيب
 
توقيع : moslim2000
حياكم الله وبارك فيكم
 
توقيع : ابوفتحى ss
عودة
أعلى