إخواني وأخواتي ما زلنا في سلسلة فن إحسان الظن بالله، ولا زلنا نبني حبنا لله تعالى على أسس سليمة أولها تأمل أسماء الله تعالى وصفاته.
في الحلقات الماضية تأملنا حكمة الله وتودده لعباده وإعانته لمن استعان به في البلاء. اليوم سنتأمل صفة جديدة من صفات ربنا الحبيب، عندما تتأملها وأنت في رحم المعاناة يزداد حبك لخالقك ومولاك. إنها رحمة الله. تعالوا نتأمل جمال هذه الرحمة حتى نطمع فيها، ثم نعرف كيف نحصلها.
رحمة الله! مصدر الفرح الأعظم...أمرنا الله أن نفرح بها فقال: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)). فبذلك...أسلوب حصر حصر لأنه أولى ما يُفرح به...لأن هذه الرحمة هي مصدر الفرح الحقيقي الذي لا ينضب ولا يتأثر بالظروف، أولى من متاع الدنيا الفاني.
عرَّف المفسرون هذا الفضل والرحمة بأنهما الإيمان والقرآن. هذان مصدر فرح تحمله في صدرك في السراء والضراء والشدة والرخاء. إيمانك بالله وتأملك لأسمائه وصفاته وشوقك إلى لقائه واطمئنانك إلى معيته وانتظار كرامته...((فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)).
هل يملك أحد أن يمسك هذه الرحمة أو يمنعها من الوصول غى عبد من عباد الله؟ لا والله. قال الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى:
((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)).
سيد قطب رحمه الله... له تأملات جميلة جدا في هذه الآية ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها))...الجميل أنه كتبها وهو يعاني من المرض والسجن الطويل في ظروف صعبة قبل أن يُعدم لأنه كان ينادي بإفراد الله عز وجل بالحاكمية....أنصحكم إخواني بقراءتها وتأملها مرارا...اكتب الآية في محرك البحث ثم (في ظلال القرآن). واقرأ وتدبر. مما جاء في كلماته –بالمعنى-:
أن هذه الآية حين تستقر في القلب تحدث تحولا جذريا في مشاعر الإنسان وموازينه، فتيئسه من كل رحمة في الأرض وتعلقه برحمة الله، تلك الرحمة التي يستشعرها قلب المؤمن في كل وضع ولو فقد كل شيء...فمن أنعم الله عليه بهذه الرحمة ينام على الشوك فإذا هو مهاد لين، بينما إذا فقد رحمة الله ينام على الحرير فيجده شوكا لأنه تعالى قال في الآية نفسها: ((وما يمسك –يعني من الرحمة-فلا مرسل له من بعده))...فإن أمسك الله رحمته عن عبد فقُوى الأرض كلها لا تعارض مشيئة الله ولا تنزل رحمته بهذا العبد.
فمن أنعم عليه بهذه الرحمة فإن ينابيع السعادة والطمأنينة تتفجر في نفسه وإن كان في غياهب السجن ورحم المعاناة.
ثم قال:
ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتُفيض عليك. ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة. وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها. وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبدًا: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار. ووجدها يوسف عليه السلام في الجب كما وجدها في السجن. ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور. فقال بعضهم لبعض: {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته} ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار..ووجدها كل من آوى إليها يأسًا من كل ما سواها.
أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشيء في الشعور قيمًا لهذه الحياة ثابتة؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها.
إذن أخي أيا كان بلاؤك، ومهما كانت شدته...اطلب رحمة الله..وستجدها.
ثم قال سيد رحمه الله-وهنا أنقل قوله باختصار-:
(ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآي.
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة...ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها، وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه، فكانت رحمة بذاتها-أي هذه الآية بحد ذاتها أحسها رحمة خاصة له من الله في لحظة عسره تلك- وقد قرأتها من قبل كثيرًا. ومررت بها من قبل كثيرًا. ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا.. نموذجًا من رحمة الله حين يفتحها.فانظر كيف تكون!
إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق. وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته.
كلام جميل جدا من إنسان أحس فجأة برحمة الله فأغنته عن الدنيا كلها وهونت عليه المصاعب كلها.
إخواني، أنت في الأوضاع الاعتيادية عندما تحس بالفرح فإنك قد تعزو هذا الفرح إلى الأسباب المادية...صحتك، مالك، مكانتك، زوجتك، أولادك، ما تتلذذ به من طعام وشراب...لكن عندما تكون في بلاء شديد وتفقد كثيرا من الأسباب المادية ومع ذلك تحس فجأة بالفرح، فإنك تدرك حينئذ أن هذه الفرحة ما هي إلا من رحمة الله وبرحمة الله...واحة تجدها وسط صحراء العناء.
هذه رحمة الله يا إخواني وأخواتي. أرجو أن تكونوا قد طمعتم فيها...
طيب، ماذا نفعل حتى نحصلها؟ قال ربي سبحانه وتعالى:
((إن رحمة الله قريب من المحسنين))...كن من المحسنين...الواحد منا عادة إذا وقع في مشكلة ينشغل بنفسه وبمشكلته وكيفية التخلص منها، ويتحسر على ما فاته ويخاف من المستقبل...ننسى في هذه اللحظات الحرجة أن نكون من المحسنين لنستأهل رحمة الله...((إن رحمة الله قريب من المحسنين)).
ما أجمل ان يصبح الخير فيك سجية وطبعا، فتجد نفسك تحسن وتفعل الخير تلقائيا وأنت في أحرج الظروف، لأنك تعودت ألا تعيش لنفسك بل تعيش للناس ولخدمة دينك.
ماذا عليك أن تفعل حتى تستأهل رحمة الله؟ ارحم...
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
أحد إخواني كان معي في الأسر، عشت معه عدة أشهر... هذا الأخ قد تعود على بذل الخير وعلى أن يعيش للناس ويفرج كربات الناس وهو في منطقته معروف بذلك. تعرف أثناء الأسر على شاب قتل رجلا فحكم عليه بالسجن المؤبد. ثم إن هذا الشاب استقام وصلح أمره في السجن فنقل إلى جناح القضايا الإسلامية. الأخ المحسن الرحيم تعرف عليه من وراء الجدران...لم يلتق به ولم ير وجهه، لكنه عرف أن الأخ القاتل يمكن الإفراج عنه إذا تصالح اهله مع أهل القتيل على مبلغ من المال...فبدأ أخونا بالتنسيق مع زواره من أشقائه لجمع المال لهذا الشاب ليفرج كربته.لم يلهه السجن عن فعل الخير، بل هو يسعى-وهو أسير- في تفريج كرب إخوانه. كان يوصي من الأسر بإعطاء مال من ماله لأرامل ومحتاجين. مثل هذا يحس رحمة الله أينما كان وفي كل ظرف. فالراحمون يرحمهم الرحمن.
أخ آخر كان قد عانى من السجن ثماني سنوات ومر فيه بظروف صعبة للغاية، ولا يزال في الأسر فرج الله كربه. لكنه مع ذلك كان رحيما بإخوانه.مرضت مرة فوضع رأسي في حجره وقرأ علي قرآنا ورقَاني وعيناه تدمعان لرقة قلبه. هذا الأخ هو ذاته الذي كان يقول لي: (أريدك أن تستمتع بنعمة البلاء)! رضا وطمأنينة..فالرحمون يرحمهم الرحمن.
بعض الإخوة في الأسر كانت أحوالهم المادية ضيقة...فكانوا يعبرون عن رحمتهم بوضع قطع من الطعام المقدم لنا في صرر ورميها للقطط المارة من فوق شبك غرف السجن.
تريد رحمة الله التي لا يمسكها أحد من الجن أو الإنس؟ تريد رحمة الله التي بها الفرح الحقيقي؟ عود نفسك على الرحمة والإحسان في كل الظروف. ألم تر أن الله تعالى امتدح من يؤثر إخوانه على الرغم من فقره فقال في الأنصار: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)). يعانون من بلاء الفقر ومع ذلك يحسنون.
ألم تر إلى قول النبي: ((ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة . ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
خلاصة الحلقة: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء...وحينئذ: ((ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها)).