ونستكمل شيئًا من الردِّ على هذا الغافل فنقول:
قال: أذكر هنا أن كثيرينَ من الأسلافِ انتقدوا كتاب (صحيح البخاري)، ولم يرمهم أحدٌ بالكُفر والخرُوج من المِلَّة: الإمام أحمد بن حنبل، الإمام الشافعي، ابن تيمية، ابن القيم، الترمذي، النسائي، وابن الجوزي، ابن حزم، وأسماء كثيرة من العلماء الأوائل.
وهناك أسماء أخرى موثُوقٌ في صدقها وعلمها مثل محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمد الغزالي والألباني وسواهم من المعاصرين خلال القرن العشرين.
نقول: شرُّ البلية ما يضحك!
الإمام أحمد بن حنبل هو شيخ الإمام البخاري، والإمام محمد بن إدريس الشافعي شيخُ الإمام أحمد شيخِ الإمام البخاري، فمن أين أدركا (صحيح البخاري) حتى يطعنا فيه؟!
وللتوضيح نقول: توفي الإمام الشافعي سنة 204 هـ وكان وقتها الإمام البخاري ابن 10 سنوات!
ولا توجد رواية صحيحة تفيد أنَّ البخاريَّ عرض صحيحه على شيخه الإمام أحمد، والقول بأنهما انتقداه يحتاج إلى إسناد صحيح إليهما، فهاتِه.
وأمَّا مَن ذكرتَهم من العلماء –غير المعاصرين- فلا يقول أحدهم إنه أعلم من الإمام البخاري بالحديث، وقد أطبق هؤلاء وغيرهم على إمامته.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن).انتهى.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الطرق الحكمية):
"وذَكَرَ البخاريُّ في تاريخه أن عبد الله بن الخليل لا يُتَابَعُ على هذا الحديث، وهذا يوافـق قول أحمد: إنه حديث منكر".
فانظر كيف يستشهد الإمام ابن القيم بكلامِ وحُكْمِ الإمام البخاري، فكيف ينتقد كتابه الصحيح؟!
أمَّا الترمذي فكثيرًا ما تجده يقول: وسألتُ عنه –يعني حديثًا ما- محمدَ بن إسماعيل فقال: حسن، أو قال: حسن صحيح، أو قال غير ذلك، فيأخذ الترمذي من شيخه البخاري قوله ويعمل به، فمن أين أتيت بانتقاد الترمذي للبخاري؟
والإمام أبو الفرج ابن الجوزي ردَّ العلماء عليه أحاديثَ في البخاري أوردها هو في كتابه (الموضوعات)، مع حفظه وإتقانه رحمه الله تعالى.
والإمام الحافظ ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى انتقد على الإمام البخاري حديثَ هشام بن عمَّار في تحريم المعازف، وسبب انتقاده إياه هو قول الإمام البخاري (قال هشام بن عمَّار) بدلاً من (حدثنا) أو (حدثني)، والعلماء لهم ردود على الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى، وقالوا بالتحقيق إنه أخطأ لأنَّ هشامًا هذا من شيوخ الإمام البخاري، وحتى الذين قالوا بأنَّ البخاريَّ لم يسمعه من هشام جزموا بصحته على أساس تعليق البخاري إياه بصيغة الجزم (قال هشام)، والحديث المعلق في البخاري بصيغة هو صحيح عنده إلى مَن علَّقه عليه.
ثم نأتي للمعاصرين، ونبدأ بالشيخ/ محمد رشيد رضا، فنقول:
إنَّ الشيخ –رحمه الله تعالى- من أبرز تلاميذ المدرسة العقلانية التي أسسها جمال الدين الأفغاني ثم تلاه تلميذه محمد عبده الذي استقى منه الشيخ/ رشيد رضا رفضه لأي حديث يخالف العقل –وهذا ينطبق أيضًا على الشيخ/ محمد الغزالي وسيأتي كلامه بما يدعم هذا- بل ذهب الشيخ/ رشيد لأبعد من هذا وقال بما لم يقل به المعتزلة الأوائل من تقديم العقل على النقل بهذه الطريقة؛ إذ يصرح في مجلته (المنار) بقوله هذا:
"وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز، ليست من أصول الدين ولا فروعه … وأنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري، مهما يكن موضوعه". كذا قال!
وهكذا يُخْرِجُ أفعالَ النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، والله عز وجل يقول في كتابه "لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ"، وهذا نص عام، وقد كان الصحابة يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلمفي عامة أحواله ، فلما وُضِعَ حيوان اسمه الضب على مائدته ولم يأكله تركوا الأكل حتى أخبرهم بعلة تركه، وهذا أنس بن مالك لم يزل يحب الدُّبَّاءَ منذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحبه.
ولم يقتصر كلام الشيخ/ رشيد رضا في وجوب مخالفة ونبذ الشرع الذي جاء بالأحاديث –كما قد يتوهم البعض- بل تجاوزه إلى الطعن صراحةً في القرآن الكريم واعتبره حاجزًا يحول دون إقبال الكفار على الإيمان بهذا الدين العظيم، وانظر هذا في قوله في (تفسير المنار):
"ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال الإفرنج عليه أكثر واهتداؤهم به أعم وأسرع"!
وهذا الكلام باختصار هدم للدين وإيغال في العقلانية والاعتزال بتقديمه العقل على النقل.
وقد نقل رشيد رضا في تفسير المنار عن شيخه محمد عبده قوله:
"وأما ما ورد في حديث مريم و عيسى، من أن الشيطان لم يلمسهما، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم، وإزالة حظ الشيطان من قلبه صلى الله عليه وسلم، فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد، ولما كان موضوعُها عالَمَ الغيب من قـسـم العـقائـد، و هي لا يـؤخـذ فـيهـا بالـظـن، لـقـوله تعالى :«وإنَّ الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئًا»، فإننا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا"!
فهذا إنكار لثلاثة أحاديث صحيحة متفق عليها؛ اتفق أهل الصنعة على تصحيحها، وإنكار حديثٍ واحدٍ صحيحٍ بعد علمه بصحته هو كفرٌ بالله لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بإنكار عدد كبير من الأحاديث الصحيحة كما هو شأن محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا؟ فإن كان عندهما علم فلا خير في علم لا يقود صاحبه إلى السنة، ويجعله جريئًا على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حسبنا الله ونعم الوكيل، هكذا يكون اتِّباعُ خطوات الشيطان؛ من طعن في السنة إلى طعن في القرآن؛ بل إنه من المعروف لهذه المدرسة العقلانية إنكارها لواقعة سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكارها لخروج المهدي وغيرها من المسائل المتواترة عند أهل العلم!
ويجدر هنا الإشارة إلى شطحات الدكتور/ مصطفى محمود صاحب حلقات العلم والإيمان والتي ذهب فيها إلى إنكار الجنة والنار وعذاب القبر وغيرها صراحةً دون مواربة، وكلامه في هذه المسائل ثابت في كتبه المبثوثة والتي قام بالردِّ عليها بعض الشيوخ الأفاضل؛ ومنها كتاب
.
ثم نأتي للشيخ/ محمد الغزالي المعتزلي العقلاني الذي لهث محاولاً اللحاق بذيل هذا الركب الذي طعن في دين الله المتمثل في الكتاب والسنة، فتراه يصرح في مقدمة كتابه (فقه السيرة) –بتحقيق الشيخ/ الألباني- بقوله:
"قد يختلف علماء السنة في تصحيح حديث أو تضعيفه، ويرى الشيخ ناصر –بعد تمحيصه للأسانيد- أنَّ الحديث ضعيف، وللرجل من رسوخ قدمه في السنة ما يعطيه هذا الحق، أو قد يكون الحديثُ ضعيفًا عند جمهرة المحدثين، لكني أنا أنظر إلى متن الحديث فأجده متفقًا كلَّ الاتفاق مع آية من كتاب الله، أو أثرٍ من سنة صحيحة فلا أرى حرجًا من روايته، ولا أخشى ضيرًا من كتابته. إذ هو لم يأتِ بجديد في ميدان الأحكام والفضائل، ولم يزد أن يكون شرحًا لما تقرر من قبل في الأصول المتيقنة،... (ثم ساق الغزالي مثالاً لحديث قال الشيخ الألباني بتضعيفه رغم تحسين الترمذي له وتصحيح الحاكم إياه فقال الغزالي به لأنَّ الحديث موافق للشرع بصرف النظر عن ضعفه!
إلى أن قال: "وفي الوقت الذي فسحتُ فيه مكانًا لهذا الأثر –على ما به- صددتُ عن إثبات رواية البخاري ومسلمٍ مثلاً للطريقة التي تمت بها غزوة بني المصطلق. فإن رواية الصحيحين تُشْعِرُ بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم باغت القوم وهم غارُّون –يعني أخذهم على غِرَّة- ما عُرِضَتْ عليهم دعوةُ الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوصٌ، ولا عُرِفَ من أحوالهم ما يقلقُ.!.. إلى أن قال: "وسكنت نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير، فهو –على ضعفه الذي كشفه الأستاذ الشيخ/ ناصر- يتفق مع قواعد الإسلام المتيقنة، أنه لا عدوان إلا على الظالمين، أمَّا الغارُّون الوادعون فإنَّ اجتياحهم لا مساغ له... ثم ساق أمثلة أخرى يبين فيها سبب إعراضه عن أحاديث صحيحة ويعمل بالضعيف بدلاً منها.
نعود إلى كلامنا عن هذا الحديث –الصحيح- الذي أعرض عنه الغزالي بمخالفته الشرع –بزعمه- فنقول:
"بعد رجوع بني المصطلق من غزوةِ أحد فإنهم بدأوا يُجيِّشون الجيوش ضد الإسلام والمسلمين ولمدة عاميْنِ، واستعدوا للمعركة استعداداً كاملاً .. ولما وصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدَّر للموقف قدره، وجعل يفكّر في مواجهة هذه القبيلة، فبدأ بمراقبة حركات هذا العدو مراقبة شديدة، ثم أمر بريدة بن الحصيب بالذهاب إليهم ليعرف وجهتهم وقوَّتهم، فخرج مسرعًا حتى وصل عندهم فوجدهم قومًا مغرورين بأنفسهم وبما لديهم من القوة قد ألَّبُوا القبائل وجمعوا الجموع، فاتصل برئيسهم الحارث بن أبي ضرار، فسأله الحارث (ملك بني المصطلق): من الرجل؟ قال: رجل منكم، قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأسير في قومي ومن أطاعني، فتكون يدنا واحدة حتى نستأصله، فازداد فرح القوم بانضمام قوة جديدة إلى قوتهم، فقال له الحارث: فنحن على ذلك فعجّل علينا، قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني، فَسُرُّوا بذلك منه، فمضى إلى المدينة وأخبر المسلمين بأمرهم. انتهى من طبقات ابن سعد ومغازي الواقدي.
فليس الأمر كما زعم الزاعم، ولو أنَّه ردَّ الكلام إلى أولي العلم لاستفاد العلم الصحيح وما كان ليقع في هذا التخبط الذي دفعه دفعًا للإعراض عن السنة الصحيحة!
ومَن أراد الاستزادة حول بعض مواقف الشيخ/ الغزالي من السنة النبوية فليتفضل مشكورًا بقراءة كتاب الشيخ سلمان العودة واسمه
، وفيه يردُّ على بعض ما أثاره الغزالي من شبهات حول السنة النبوية.
أمَّا الشيخ الإمام/ الألباني رحمه الله تعالى فليست له على الصحيحين أية انتقادات إلا كانتقادات مَن سبقه من العلماء أصحاب هذا الفن، وللعلماء أمثاله أن يأخذوا باجتهاداتهم دون تقليد غيرهم، ولذا نقول إنه لا يجوز انتقاد (صحيح البخاري) –كما قلنا بالرد على مقالك الأول- إلا للعالم وليس للجاهل.
وللكلام بقية إن كان بالعمر بقية، وانشروا هذه الردود ليكون المسلم على بينة من دينة ولا يغترنَّ بكلام ساذج مثل هذا...