المقاصد الكبرى ٌللإستشراق
د. محمد عمارة
في العلاقات بين الغرب والشرق, كانت ظاهرة الاستشراق واحدة من أبرز الظواهر الفكرية التي عرفتها هذه العلاقات. ولأن الاستشراق: هو سعي الغرب لدراسة الشرق ـ دياناته ومذاهبه وشعوبه وثقافاته وحضاراته ـ فلقد اختلفت وتمايزت مقاصد المستشرقين من وراء الدراسات التي سعوا إلى إنجازها... فكان فيهم العلماء الذين سعوا إلى المعرفة, والكشف عن عوالم الشرق, وما شاع حولها من حقائق وأساطير، وكان منهم من مثلوا الطلائع الفكرية التي مهدت السبل أمام مؤسسات الهيمنة الغربية الدينية والسياسية ـ الطامعة ـ تاريخيا ـ في الاستيلاء على الشرق, لنهب ثرواته, واحتواء ثقافاته, وإلحاقه بالمركزية الحضارية الغربية.. فكان هذا الفريق من المستشرقين بمنزلة كتائب الاستكشاف التي تتقدم الجيوش لتمهد أمامها طرق الزحف والقتال.
وإذا نحن شئنا أن نكشف أبرز سلبيات هذا اللون من الاستشراق, الذي عمل رجاله على خدمة مشاريع الهيمنة والاحتواء الغربية للشرق, فإننا نستطيع أن نصنفها تحت هذه العناوين:
1- نقل مشكلات اللاهوت الكنسي الغربي إلى الإسلام, وذلك بالتشكيك في إلهية الوحي القرآني, ومصداقية السنة النبوية, وتصوير الإسلام باعتباره هرطقة شرقية, وصورة عربية من اليهودية والمسيحية، وتصوير الشريعة الإسلامية وكأنها صورة عربية من القانون الروماني.
2- نقل الثنائيات المتناقضة التي تميزت بها الحضارة الغربية إلى الفكر الإسلامي، مثل التناقضات بين الدين والدولة، بين العلم والدين، بين الدنيا والآخرة، بين الذات والموضوع، بين الفرد والمجموع... إلخ.
3- تضخيم حجم الفرق والمذاهب الهامشية والشاذة والمغالية ـ الباطنية والغنوصية ـ التي ظهرت في الحياة الفكرية الإسلامية, وذلك لإظهار المسلمين وكأنهم أمة من الشراذم والأقليات الشاذة, وذلك على حساب الوحدة التي مثلها أهل السنة والجماعة, الذين مثلوا أكثر من90% من المسلمين على مر تاريخ الإسلام.
4- إشاعة العلمانية الغربية في الأوساط الفكرية والسياسية الإسلامية, لنزع القداسة عن المقدسات الإسلامية, وإزاحة المرجعية الدينية عن الحياة, تمهيدا لإلحاق الشرق الإسلامي بالغرب العلماني ثقافيا وسياسيا, بإزالة التميز الديني والفكري الذي يعصم الشرق من هذا الإلحاق والذوبان.
5- تربية أجيال من الحداثيين العرب والمسلمين والشرقيين, الذين يبشرون ـ نيابة عن المستشرقين ـ بالحداثة الغربية, التي تقيم قطيعة معرفية كبري مع الموروث, والموروث الديني على وجه الخصوص, والتي تستبدل الدين الطبيعي ـ القائم على العقل والعلم ـ بالدين الإلهي وذلك حتى يتماهى الشرق مع الغرب, الذي دفعته الحداثة إلى هذا المصير.
6- الترويج للنزعة التاريخية، أو "التاريخانية" التي تنزع عن ثوابت الدين -عقائده وقيمه وأحكامه- صفة الاستمرار والخلود, فتحيله إلى التقاعد والاستيداع مع تغير الواقع ومرور التاريخ.
7- إشاعة المعنى العرقي والعنصري الإثني للقومية بين شعوب الشرق, لنقل القوميات الإسلامية من كونها دوائر لغوية وثقافية, تحتضنها الجامعة الإسلامية إلى نزاعات عرقية وعصبيات إثنية, وألغام تفجر الصراعات داخل العالم الإسلامي, حتى يكون بأسه بينه شديدا, فيصبح فسيفساء ورقية، ويسهل على الغرب الاستعماري احتواؤه وإلحاقه بالمركزية الحضارية والسياسية الغربية.
9
9- العمل على إحلال العاميات واللهجات المحلية محل اللغة العربية الفصحى, وذلك لفصل الواقع اللغوي عن القرآن العربي, ولقطع أوصال الوحدة اللغوية التي بناها القرآن الكريم والشريعة الإسلامية, وذلك لفرنسة وجلنزة الألسنة في بلاد العروبة والإسلام, وتحويل الأمة الواحدة إلى أمم شتى.
تلك كانت أبرز السلبيات التي زرعها الفكر الاستشراقي بشكل مباشر، أو عن طريق تلامذته في الحياة الفكرية الإسلامية, خدمة لمؤسسات الهيمنة الغربية ـ الدينية والسياسية ـ التي عمل في خدمتها هذا اللون من الاستشراق.
ولأن الجانب العقدي والإيماني والقيمي من الإسلام هو أدخل في دائرة الفطرة الإنسانية, التي يصعب ـ بل وقد يستحيل ـ التأثير فيها, فإن فكرية الاستشراق والغزو الفكري والتغريب لم تفلح في تحقيق أي نجاحات في هذا الميدان ـ اللهم إلا حالات محدودة من التغيير، لكن ظلت الزندقة والإلحاد, وتبني الفلسفة المادية في تفسير الخلق ورؤية الكون، غريبة عن وجدان المسلمين، حتى أن الأحزاب الماركسية التي تتبنى المادية الجدلية والتفسير المادي لنشأة الكون, وسير الاجتماع والتاريخ... حتى هذه الأحزاب ـ التي ظلت هامشية ـ لم تجرؤ على الدعوة ـ في أدبياتها ـ إلى الزندقة والإلحاد ـ كما حدث في الدول الشيوعية ـ وذلك مخافة ردود الأفعال في المجتمعات المؤمنة التي تعيش فيها, والتي تحاول التقرب إلى جماهيرها.
أما الجانب الذي حقق فيه الاستشراق والتغريب والغزو الفكري نجاحات كبرى بل وكارثية ـ فكان مجال علمنة القانون, وعزل الشريعة الإسلامية عن مؤسسات التشريع والقضاء, وإحلال القانون الوضعي قانون نابليون ـ ذي الأصول الرومانية ـ محل شريعة الإسلام وفقه المعاملات الإسلامية.
ولقد سلك الغرب إلى تحقيق علمنة القانون وتغريبه في بلادنا الإسلامية العديد من الطرق والأساليب:
أ ـ فمرة بإعلانه أن تغريب القانون في المستعمرات المسلمة هو حق للأسلحة الغازية التي أخضعت هذه البلاد... وبعبارة أستاذ الحقوق الفرنسي جورج سوردون "فإن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية وهذا يخولنا حق اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد"!
ب ـ ومرة بالتسلل الناعم والتدريجي المصاحب لزيادة أعداد الجاليات الأجنبية في بلادنا, ونمو المبادلات التجارية بين الأجانب والمواطنين المسلمين، كما حدث في مصر عندما بدأ تسلل القانون الأجنبي إلى المحاكم التجارية, في الموانئ المصرية في أبريل سنة 1855م, على عهد الخديو سعيد.. ثم إلى المحاكم القنصلية، ثم إلى المحاكم المختلطة سنة 1875م.. حتى إذا ما حدث الاحتلال الانجليزي لمصر سنة 1882م تم تعميم هذا القانون الأجنبي في القضاء الأهلي المصري 1883م.
ج ـ ومرة عن طريق تغريب الواقع بالتدريج, حتى يصبح تغريب القانون مطلبا يستدعيه هذا الواقع المتغرب.. كما حدث في شبه القارة الهندية, والذي تحدث عنه العلامة أبو الأعلى المودودي فقال: "إن الانجليز قد صرفوا مدة قرن كامل تقريبا في تبديل نظام البلاد القانوني, بدَّلوا نظام حياتها أولا شيئا فشيئا, وأعدوا رجالا لا يتفكرون, ولا يعملون إلا حسب نظرياتهم وأفكارهم, وعملوا عملا متواصلا على تغيير أذهان الناس وأخلاقهم ونظامهم الاقتصادي بنشر الأفكار وبتأثير السلطة والاستيلاء، أي ظلوا يلغون القوانين القديمة وينفذون مكانها قوانينهم الجديدة على قدر ما ظلت تأثيراتهم المختلفة تغير من نظام البلاد الاجتماعي.